إيران تعيد خلط أوراقها الأمنية.. فهل يغيّر ذلك شيئًا
تعيش إيران لحظة إعادة تموضع أمني كثيف، عنوانها المعلن هو التكيف مع دروس الحرب الأخيرة مع إسرائيل، لكن أبعادها الأعمق تكشف عن قلق بنيوي متراكم داخل المؤسسة الحاكمة.
وفي خطوة فاجأت كثيرين، أنشأت الجمهورية الإسلامية مجلسا أمنيا جديدا أُطلق عليه اسم “مجلس الدفاع”، تحت إشراف المجلس الأعلى للأمن القومي، وبموجب المادة 176 من الدستور.
ويعيد هذا المجلس، الذي وُصف في الإعلام الرسمي بأنه “مجلس حرب”، إلى الأذهان نموذجا يعود إلى الحرب الإيرانية – العراقية (1980 – 1988)، حين لجأت طهران إلى تفعيل هياكل مصغرة وعالية التركيز لتجاوز بطء البيروقراطية وضمان سرعة اتخاذ القرار في مواجهة التهديدات الوجودية.
ويقول الباحث بهنام بن طالبلو في تقرير نشرته مجلة “ناشونال أنتريست” الأميركية إن اللافت أن هذا التحول المؤسسي لم يأتِ من فراغ بل جاء بعد حرب قصيرة ومكثفة استمرت 12 يومًا مع إسرائيل، وأظهرت خللا واضحا في منظومة القيادة والسيطرة الإيرانية.
وبدأت تلك الحرب بعمليات اغتيال دقيقة ضد قيادات في الحرس الثوري، واستكملت بضربات استباقية أربكت مراكز القرار. ومع أن طهران ردّت عسكريًا، إلا أن غياب التنسيق وسرعة الأحداث أظهرا أن خططها الدفاعية السابقة لم تعد قابلة للتطبيق في بيئة تتغير لحظيًا.
خلط الأوراق الأمنيةِ قد يعطي النظامَ الإيراني بعض الوقت، لكن من غير المرجح أن يغير الكثير في المعادلة
وفي هذا السياق بدا أن المؤسسة الحاكمة اقتنعت بضرورة إعادة خلط أوراقها الأمنية، من خلال أدوات تنظيمية وأسماء مألوفة، لكن مع أدوار جديدة.
ومن أبرز تلك الأسماء عودة علي لاريجاني إلى منصب أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي، وهو المنصب الذي شغله سابقًا بين عامي 2005 و2007، ويأتي اليوم محمّلًا بلقب جديد: “ممثل المرشد الأعلى”.
ويوصف لاريجاني، الذي منعه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي مرتين بشكل غير مباشر من الترشح للرئاسة، بأنه براغماتي و”حلّال مشاكل”، لكنه في الوقت ذاته لا يملك سجلًا يظهر أنه قادر فعليًا على تغيير قواعد اللعبة داخل النظام.
ومع ذلك فإن إعادة تدويره في هذا المنصب تندرج ضمن مسعى مزدوج: احتواء التصدعات الداخلية عبر شخصية سياسية مخضرمة، وتوجيه إشارات إلى الخارج تفيد بأن النظام لا يزال يملك أدوات تفاوض مرنة، خصوصًا في الملف النووي.
غير أن السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا التحول يبقى: هل تكفي إعادة تدوير الهياكل والشخصيات لتغيير النتائج؟ فمجلس الدفاع، وإن كان يعكس رغبة في تفعيل رد أمني مركّز وفعال، إلا أنه لا يغيّر من واقع أن النظام يعاني من تداخل مؤسساتي مزمن، وازدواجية في مراكز القرار، بين المدني والعسكري، وبين الشرعي والثوري.
كما أن غموض صلاحيات هذا المجلس الجديد، واحتمال تضاربها مع المجلس الأعلى للأمن القومي أو مع الحرس الثوري، قد يعيد إنتاج المشكلة ذاتها التي يحاول معالجتها: بطء الاستجابة وضعف الفاعلية.
وأكثر من ذلك، فإن استدعاء نموذج حرب العراق يعكس عقلية أمنية تعتبر أن الخطر الوجودي على النظام لم يتغيّر، حتى بعد أربعة عقود.
وفي الثمانينات كانت إيران تعيش تحت حصار دولي، وفي مواجهة نظام صدام حسين، وهو عدو تقليدي وصريح.
أما اليوم فطبيعة التهديد مختلفة: حرب استخباراتية هجينة، وهجمات سيبرانية، واستهداف دقيق للقيادات، وتحريض داخلي متنامٍ تقوده احتجاجات شبابية عميقة الجذور.
وبذلك قد لا يكون النموذج المأخوذ من زمن التعبئة الشعبية الشاملة، حيث الدولة والمجتمع يندمجان في لحظة طوارئ، صالحا في زمن اللامركزية والغضب الشعبي وفقدان الثقة.
وأحد الأبعاد الأكثر تعقيدًا في إعادة تشكيل هذا الهيكل الأمني هو علاقة القرار الأمني بالقرار السياسي. فعلى الرغم من أن المجلس الأعلى للأمن القومي كان تاريخيًا قناة لصياغة المواقف الكبرى، إلا أن دوره تآكل بمرور الزمن، بعد أن انتقلت ملفات حساسة مثل المفاوضات النووية إلى وزارة الخارجية.
واليوم، بإعادة لاريجاني، هناك محاولة واضحة لإعادة الاعتبار لهذا المجلس، أو على الأقل للظهور بذلك أمام الخارج.
وبحسب المتحدث باسم الحكومة، فإن لاريجاني “موثوق” ويعزز “قدرة إيران على التفاوض”، لكن هذا التوصيف لا يخفي واقع أن سلطة الأمين العام تبقى دومًا مرهونة بإرادة المرشد، لا بصلاحيات قانونية واضحة.
وفي السياق الداخلي لا تبدو التحديات أقل خطورة. فالنظام يواجه تآكلًا في شرعيته، وموجات احتجاجية متكررة، وانفصالًا واضحًا بين النخب الحاكمة والجيل الشاب.
خطوات مدروسة بعناية
وبحسب ما نُقل عن مصادر قريبة من المجلس الأعلى للأمن القومي، فإن من بين مهام لاريجاني أيضًا “إعادة صياغة خطاب الأمن القومي” و”إضفاء طابع مؤسسي على الحوار مع الشباب،” وهي مهام تبدو ثقيلة في ظل قمع مستمر، وفقدان الثقة العميق بين الدولة والمجتمع.
وفي نهاية المطاف، فإن ما تفعله إيران اليوم هو ما تجيده منذ عقود: إدارة الأزمات لا حلّها.
وتشير إعادة هيكلة المجلس الأعلى للأمن القومي، وإنشاء مجلس الدفاع، وعودة لاريجاني، إلى محاولة لاحتواء الضغط لا معالجته. فالقيادة السياسية، وفي مقدمتها خامنئي، لا تزال تفضّل إجراء تعديلات شكلية محسوبة وتدريجية، على إجراء أي تحول هيكلي يهدد جوهر النظام.
وعلى مدار العقدين الماضيين واجهت إيران سلسلة من الأزمات الأمنية الكبرى التي كشفت بوضوح عن محدودية النظام في إدارة الصدمات، وعجزه عن استخلاص الدروس البنيوية منها.
ومن اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير 2020 بضربة أميركية مباشرة في بغداد، إلى التظاهرات الواسعة التي اجتاحت البلاد في 2019 و2022، مرورًا بعمليات إسرائيلية دقيقة استهدفت عمق إيران الجغرافي والعسكري، تتكرّر الأنماط نفسها: مفاجأة، ارتباك، ثم ردّ رمزي لا يرقى إلى مستوى التهديد.
وكل واحدة من هذه اللحظات مثلت اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام على التكيف مع واقع أمني متغير. لكن بدلًا من إعادة هيكلة منظومة القرار الأمني أو مساءلة مراكز النفوذ الفعلي، لجأت طهران إلى تدابير سطحية، تتراوح بين إعادة تدوير الوجوه داخل المؤسسات وإطلاق تصريحات نارية عن “الخطوط الحمراء” والردود المزلزلة التي لا تأتي غالبًا، أو تأتي بطرق لا تردع الخصم ولا تُرضي الجمهور المحلي.
وتشير هذه التجارب إلى نمط ثابت: النظام الإيراني لا يرى في الأزمات فرصًا للتعلم أو التغيير المؤسسي، بل يرى فيها تهديدًا وجوديًا يُعالَج بتقوية الأجهزة الأمنية التابعة للمرشد، وتمكين الحرس الثوري أكثر، على حساب المؤسسات التقليدية -بما فيها الجيش أو حتى الوزارات ذات الطابع المدني.
وفي هذا السياق قد يعطي خلط الأوراق الأمنيةِ النظامَ بعض الوقت، لكن من غير المرجح أن يغير الكثير في المعادلة ما دامت جذور الإخفاقات -سواء في الداخل أو في سياق المواجهة مع إسرائيل- لم تُمسّ.