ميكي ماوس في أبوظبي: محطة إستراتيجية للقوة الناعمة الإماراتية

وكالة أنباء حضرموت

 أدركت الإمارات العربية المتحدة مبكرا أن التأثير الحقيقي في القرن الحادي والعشرين لا يُقاس فقط بالثروات أو الجيوش، بل أيضًا بالقدرة على صياغة الصورة، وشحن الرموز، وكسب العقول والقلوب.

وتمضي أبوظبي اليوم في بناء سردية وطنية جديدة تتجاوز النفط، وتعبر من بوابة الثقافة والترفيه نحو حضور عالمي أوسع.

وفي خطوة تاريخية تمزج بين الخيال والسياسة الخارجية، أعلنت شركة والت ديزني عن أول مدينة ملاه لها في الشرق الأوسط: ديزني لاند أبوظبي.

ومن المقرر تطوير هذه المدينة بالتعاون مع شركة ميرال، ومقرها أبوظبي، في جزيرة ياس. وستكون سابع منتجع عالمي لشركة ديزني، وأول منتجع جديد لها منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وأكثرها تقدمًا من الناحية التكنولوجية.

وتقع هذه المدينة على بُعد أربع ساعات طيران من ثلث سكان العالم، بما في ذلك أسواق جنوب آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، وهي تمثل أكثر من مجرد توسع تجاري، إذ أنها ليست مجرد قصة عن قلاع وألعاب وعروض.

ديزني لاند أبوظبي ليست مجرد استثمار سياحي؛ بل تعكس تحول الإمارات إلى لاعب مؤثر في هندسة المشهد الثقافي والدبلوماسي العالمي

ويرى محللون أن ديزني لاند أبوظبي، بتقنياتها المتقدمة وموقعها الإستراتيجي، ليست مجرد استثمار سياحي؛ بل تعكس إعلانا ضمنيا عن تحول الإمارات إلى لاعب مؤثر في هندسة المشهد الثقافي والدبلوماسي العالمي، ورسالة ثقة وشراكة للولايات المتحدة والعالم، مفادها أن الخيال حين يُدار بعقلية إستراتيجية، يصبح أداة سيادية.

وكما أشار الرئيس التنفيذي لشركة ديزني روبرت أ. إيجر ستكون هذه المدينة “ديزني أصيلة، وبطابع إماراتي مميز.”

وتُفهم ديزني لاند أبوظبي على أنها معلم إستراتيجي في إستراتيجية القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة: جهد مُصمم بعناية لإعادة صياغة صورة الدولة عالميًا وتعزيز نفوذها من خلال الثقافة والتعليم والشراكات الدولية.

وتسعى الإمارات العربية المتحدة إلى تعميق العلاقات مع الولايات المتحدة، مُبرزةً الثقة وسط تحالفات إقليمية متغيرة.

القوة الناعمة في التصميم
يشير مفهوم “القوة الناعمة”، الذي صاغه عالم السياسة جوزيف ناي، إلى قدرة الدولة على التأثير على الآخرين من خلال الجذب بدلاً من الإكراه. ويتعلق الأمر بتشكيل التفضيلات من خلال “كسب القلوب والعقول.”

وفي القرن الحادي والعشرين، أصبحت الثقافة والهوية والرواية عوامل بالغة الأهمية للتأثير الدولي بقدر أهمية الأصول العسكرية أو القوة الاقتصادية.

وكانت الإمارات العربية المتحدة من أوائل دول الخليج التي أدركت هذا التحول وأضفت عليه طابعًا مؤسسيًا.

قيادة الإمارات العربية المتحدة لا ترى البنية التحتية الثقافية كمُحفّز للسياحة فحسب، بل كركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة الوطنية

وفي عام 2017، أطلقت إستراتيجية وطنية للقوة الناعمة تهدف إلى تعزيز سمعة الدولة وتوسيع نفوذها في الخارج.

وحددت الإستراتيجية نهجًا شاملًا، يجمع بين النجاح الاقتصادي والتراث الثقافي والمساعدات الإنسانية والالتزام بالتسامح لبناء هوية وطنية جذابة ومعروفة.

وأوضح الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس الدولة ووزير شؤون الرئاسة، خلال الكشف عن الإستراتيجية قائلا “هدفنا هو ترسيخ مكانة الإمارات العربية المتحدة في العالم وفي قلوب الناس.”

ولا ترى قيادة الإمارات العربية المتحدة البنية التحتية الثقافية كمُحفّز للسياحة فحسب، بل كركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة الوطنية.

ويرسخ استضافة منتزه ديزني في أبوظبي رسالة واضحة: الإمارات العربية المتحدة بلد آمن، عصري، ومناسب للعائلات، وموثوق به بما يكفي لاستضافة واحدة من أشهر المؤسسات الترفيهية في العالم.

ويُجسّد هذا المزج بين سحر ديزني والثقافة الإماراتية المحلية النية الإستراتيجية لدولة الإمارات العربية المتحدة لإضفاء طابع محلي على رموز الثقافة الغربية مع إبراز تراثها الخاص.

ولم يكن اختيار الموقع مصادفة أيضًا: فجزيرة ياس موطنٌ بالفعل لمدن ترفيهية شهيرة: عالم وارنر براذرز، وعالم فيراري، وسي وورلد أبوظبي.

هوية وطنية جديدة
الإمارات تتحول إلى مختبر إستراتيجي لنموذج جديد من النفوذ

وراء القوة الناعمة، تكمن ضرورة إستراتيجية راسخة: التنويع الاقتصادي. وكما هو الحال في المملكة العربية السعودية وقطر، تواجه الإمارات العربية المتحدة مستقبلاً لا تكفي فيه عائدات النفط وحدها لدعم النمو الوطني. ومع ذلك، فقد سارعت في التحرك بشكل أسرع وأكثر حزماً في مساعيها للانتقال من اقتصاد قائم على الهيدروكربونات إلى اقتصاد قائم على المعرفة والخدمات.

ويُعد توسيع قطاعي الترفيه والسياحة محورياً في هذه الرؤية. فهذه القطاعات تجذب الدخل الأجنبي، وتخلق فرص عمل، وتعزز القطاعات غير النفطية.

وقد حددت الإمارات العربية المتحدة السياحة والاقتصاد الإبداعي كركائز أساسية لمستقبل مستدام، وديزني لاند تُلبي جميع هذه المتطلبات.

مركز ثقافي
على مدى العقد الماضي، حوّلت الإمارات العربية المتحدة امتدادًا رمليًا كان يومًا ما خاليًا إلى “مقصد ترفيهي مميز”. وتُعدّ ديزني لاند أبوظبي أحدث إضافة إلى مجموعة متنامية من المعالم البارزة التي تُرسّخ مكانة الدولة كمركز عالمي للفنون والحوار والابتكار.

وشكّل افتتاح متحف اللوفر أبوظبي عام 2017، وهو أول متحف لوفر خارج فرنسا، علامةً فارقةً في الدبلوماسية الثقافية، بفضل التمويل الإماراتي واتفاقية تاريخية مع باريس.

وفي مكان قريب، يجري العمل على إنشاء متحف جوجنهايم أبوظبي، المقرر أن يكون الأكبر من نوعه، ما يعزز مكانة جزيرة السعديات كمنارة للسياحة الفنية العالمية.

وتُعد ديزني لاند أبوظبي أكثر من مشروع ترفيهي ضخم؛ فهي واجهة ناعمة لتحول أعمق تشهده المنطقة، حيث لم يعد الترفيه مسألة خدماتية بحتة، بل أصبح أداة إستراتيجية ضمن مسار إعادة تشكيل الهوية الخليجية والمكانة الدولية.

وأدركت الإمارات، مثل غيرها من دول الخليج، أن المستقبل لا يُصنع فقط عبر البنية التحتية أو الثروات الطبيعية، بل عبر القدرة على إنتاج المعنى وصياغة الرموز.

ومن هذا المنطلق، لم يعد استقطاب علامات تجارية عالمية مثل ديزني مجرد استثمار سياحي، بل ممارسة دبلوماسية ناعمة تسعى لإعادة تموضع الدولة في خرائط التحالفات الإقليمية والدولية، والتأكيد على أنها حاضنة للخيال العالمي وقادرة على دمجه ضمن نسيجها الثقافي.

وتأتي هذه الخطوة في سياق تحولات اقتصادية وسياسية وثقافية أوسع، تسعى فيها دول الخليج للانتقال من اقتصاد النفط إلى اقتصاد المعرفة والإبداع، حيث تشكل الثقافة والترفيه إحدى رافعات التنويع الاقتصادي، وأحد أبرز أدوات كسب القلوب والعقول.

وهنا تلعب ديزني لاند دورًا مركزيًا بوصفها منصة رمزية، تُرسل من خلالها الإمارات رسائل متعددة الاتجاهات: فهي بلد عصري يستطيع التفاعل مع أقوى رموز الثقافة العالمية دون أن يفقد خصوصيته.

وتكمن المفارقة في أن مشروعًا مثل ديزني، الذي يرمز إلى الطفولة والخيال، يُستخدم هنا لأداء وظيفة إستراتيجية بامتياز: تعزيز النفوذ دون صدام، وتثبيت صورة جديدة للدولة على المستوى الدولي.

ومع وجودها في موقع فريد مثل جزيرة ياس، إلى جانب مشاريع ترفيهية وثقافية كبرى، تصبح ديزني لاند جزءًا من مشهد أوسع تصوغه الإمارات بعناية، مشهد لا يهدف فقط إلى الجذب السياحي بل إلى إعادة إنتاج تموضع الخليج في العالم كمنتِج للثقافة، لا مجرد مستهلك لها.

وفي هذا السياق، تتحول الإمارات إلى مختبر إستراتيجي لنموذج جديد من النفوذ: نموذج يعتمد على بناء الثقة من خلال الخيال، وترسيخ الحضور من خلال الصورة، وصياغة الشراكات من خلال الرموز.

وما ديزني لاند إلا واحدةٌ من هذه الأدوات، لكنها تحمل في طياتها دلالة واضحة: الخليج يتغير، والخيال أصبح جزءًا من معادلة السيادة.

وفضلاً عن ذلك، يعد المشروع بمثابة رسالة دبلوماسية ضمنية تعزز الشراكات الإستراتيجية بين الإمارات والولايات المتحدة، وتبرز حرصها على تعزيز التحالفات في منطقة تشهد تحولات سياسية وإقليمية مستمرة.

ويمكن القول إن الإمارات تبني نموذجًا فريدًا للقوة الناعمة، حيث لا تكتفي بإظهار قدرتها الاقتصادية أو استقرارها السياسي، بل تذهب إلى أبعد من ذلك عبر تشكيل سردية وطنية حديثة تجمع بين الأصالة والابتكار.

ومن خلال هذه الإستراتيجية ترسخ الدولة مكانتها كلاعب مؤثر في المشهد العالمي، وتؤكد أن الاستثمار في الثقافة والترفيه يمكن أن يكون أداة سيادية تعيد رسم خرائط النفوذ الدولي بما يتناسب مع تحديات القرن الحادي والعشرين.

وفي ضوء هذه الرؤية، يبرز مشروع ديزني لاند أبوظبي كرمز لمرحلة جديدة من الطموحات الإماراتية، وهي مرحلة تقوم على استشراف المستقبل عبر دمج الرؤية الاقتصادية والثقافية، وتحويل الخيال إلى قوة حقيقية، تعيد تعريف مكانة الإمارات على الساحة الدولية، وتفتح آفاقًا جديدة للنمو والازدهار والريادة العالمية.