تلويح إيران بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي يعكس انكشافها الإستراتيجي

وكالة أنباء حضرموت

في تطوّر يعكس خطورة اللحظة الإقليمية، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية الاثنين أن البرلمان يدرس مشروع قانون للانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وسط توتر متصاعد مع إسرائيل وتزايد الضغوط الغربية.

وبينما لم تُتخذ بعد خطوة رسمية، فإن مجرد طرح هذا الخيار يفتح أبوابا واسعة أمام إعادة تشكيل البيئة الأمنية في الشرق الأوسط، ويثير تساؤلات عميقة حول مستقبل النظام الدولي لضبط التسلح.

وتقوم معاهدة حظر الانتشار النووي، التي انضمت إليها إيران عام 1970، على مقايضة واضحة: حق تطوير برنامج نووي سلمي مقابل التزام دائم بعدم امتلاك أو تطوير أسلحة نووية، والخضوع الكامل لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن إيران، منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، تدرّجت في خرق التزاماتها، حتى بلغت تخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 60 في المئة، وهو مستوى يقترب من الاستخدام العسكري.

وهدف المعاهدة، هو وقف انتشار القدرة على صنع الأسلحة النووية وضمان حق جميع الدول الموقعة في تطوير الطاقة النووية لأغراض سلمية وتخلص القوى النووية الخمس من ترسانتها من تلك الأسلحة.

وتعرف المعاهدة الدول المسلحة نوويا بأنها تلك التي صنعت وفجرت سلاحا نوويا أو جهازا نوويا آخر قبل الأول من يناير 1967. وتلك الدول هي الولايات المتحد وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا التي ورثت حقوق والتزامات الاتحاد السوفيتي السابق. وهذه هي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

مجرد طرح هذا الخيار يفتح أبوابا واسعة أمام إعادة تشكيل البيئة الأمنية في الشرق الأوسط، ويثير تساؤلات عميقة حول مستقبل النظام الدولي لضبط التسلح

وبلغ عدد الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية 191 دولة. وتوافق الدول الحائزة للأسلحة النووية على عدم نقل هذه الأسلحة أو مساعدة الدول غير المسلحة نوويا في الحصول عليها.

وطورت دولتان لم توقعا على المعاهدة وهما الهند وباكستان أسلحة نووية. كما يعتقد على نطاق واسع أن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية، لكنها لم تؤكد ذلك أو تنفه علنا.

ووقعت كوريا الشمالية على المعاهدة في 1985، لكنها أعلنت انسحابها في 2003 بعد أن واجهها مسؤولون أميركيون بأدلة قالوا إنها تشير إلى برنامج تخصيب سري. وبعد فترة من التقارب، طردت كوريا الشمالية مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية مجددا في 2009 ولم يعودوا منذ ذلك الحين.

وتنقسم المعاهدة إلى أحد عشر بندا، منها بند يمكن الدولة من الانسحاب “إذا رأت أن أحداثا استثنائية… قد عرضت المصالح العليا لبلادها للخطر”. ويتعين على الدولة إخطار الدول الأعضاء الأخرى في المعاهدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل ثلاثة أشهر من الانسحاب.

وتجتمع الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لمراجعتها كل خمس سنوات. ومن المقرر عقد مؤتمر المراجعة القادم في 2026.

ومن القضايا المحورية المثيرة للقلق لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم تقديم طهران تفسيرات مقبولة لكيفية وصول آثار اليورانيوم المكتشفة في مواقع غير معلنة في إيران إلى هناك رغم تحقيق الوكالة في المسألة لسنوات. وتعتقد الوكالة أن هذه الآثار تشير في الغالب إلى أنشطة نفذت قبل أكثر من عشرين عاما.

وردت وزارة الخارجية الإيرانية وهيئة الطاقة الذرية على ذلك بأن الجمهورية الإسلامية أوفت دائما بالتزاماتها المتعلقة بالضمانات. ووصفت الجهتان النتائج التي خلصت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها ذات دوافع سياسية وتفتقر إلى أي أساس فني أو قانوني.

انسحاب إيران من المعاهدة قد لا يُقربها من امتلاك القنبلة بقدر ما يُقربها من العزلة الكاملة، ويمنح خصومها تفويضا مفتوحا بالرد

ولدى سؤاله في مؤتمر صحفي حول احتمال انسحاب طهران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، جدد متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية موقف طهران الرسمي الرافض لتطوير الأسلحة النووية، لكنه قال “في ضوء التطورات الأخيرة، سنتخذ القرار المناسب. على الحكومة إنفاذ مشاريع القوانين البرلمانية، لكن هذا الاقتراح قيد الإعداد، وسننسق مع البرلمان في المراحل اللاحقة.”

وترى الدبلوماسية الأميركية السابقة باربرا سلافن أن انسحاب إيران ـ إن حصل ـ سيكون تتويجا لحالة الانكشاف الإستراتيجي التي تعيشها.

وتقول سلافن إن “إيران ضعيفة جدا، فقدت الكثير من دفاعاتها، ومن الواضح أن عملاء إسرائيليين اخترقوا نظامها الأمني. وهي تواجه أيضا أزمات داخلية معقدة، ولم يتبق لها من أدوات الردع سوى برنامجها النووي.”

وترجّح سلافن أن تلويح طهران بالانسحاب لا يعني بالضرورة نية فورية لامتلاك سلاح نووي، بل محاولة سياسية لإعادة رسم قواعد الاشتباك.

وترى “هم يلوّحون بالخروج ليكسبوا نقاط تفاوض، لكن تنفيذ ذلك قد يكون خاسرا تماما، لأنه سيبرر المزيد من الضربات، وربما تدخلات عسكرية أوسع، من إسرائيل أو الولايات المتحدة.”

وبينما تشير وسائل الإعلام الإيرانية إلى أن القرار لم يُتخذ بعد، فإن توقيته ـ بعد أيام فقط على قصف إسرائيلي غير مسبوق ـ يشي بأن طهران تتعامل مع المسألة كأداة ردع نفسي، أكثر من كونها قرارا إستراتيجيا نهائيا.

وأوضح المتحدث باسم الخارجية إسماعيل بقائي أن التطورات الأخيرة ستُؤخذ بعين الاعتبار في صياغة موقف إيران النهائي، متهما الوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية بأنها وفّرت التغطية السياسية للهجوم الإسرائيلي.

الذهاب نحو الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي سيضع إيران في عزلة دولية مشابهة لما واجهته كوريا الشمالية

ويرى المحلل السياسي الإيراني مرتضى مكي أن الذهاب نحو الانسحاب سيضع إيران في عزلة دولية مشابهة لما واجهته كوريا الشمالية، مع فارق أن موقع إيران الجغرافي وحجم اقتصادها يجعلان من هذا السيناريو أكثر تكلفة على الداخل الإيراني.

ويضيف مكي “الانسحاب قد يشعل سباق تسلح في المنطقة، ويضعف موقف إيران حتى أمام حلفائها المحتملين في روسيا والصين، الذين لا يرغبون بتفكك نظام عدم الانتشار.”

ويحذر آدم شينمان، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق لشؤون الحد من التسلح، من أن مغادرة إيران للمعاهدة ستُعدّ سابقة خطيرة تهدد بانهيار الضبط النووي العالمي.

ويقول شينمان “إذا انسحبت إيران، ستشعر السعودية وتركيا بالحاجة إلى خيارات نووية خاصة بها. حينها لن نكون فقط أمام إيران نووية، بل أمام منطقة نووية بالكامل.”

وفي الخلفية، تظل إسرائيل، التي لم توقّع أصلا على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، محاطة بهالة من “الغموض النووي”، ما يجعل تلويح إيران بالانسحاب أشبه بنداء احتجاج سياسي ضد اختلال ميزان الشرعية في النظام الدولي. لكن هذا النداء، كما يرى مكي، قد لا يجد له آذانا صاغية في ظل تصاعد الشكوك حول نوايا إيران وبرنامجها النووي.

ويبقى الخيار النووي، قانونيا أو عسكريا، محفوفا بتبعات تتجاوز حسابات الردع التقليدي. فانسحاب إيران من المعاهدة قد لا يُقربها من امتلاك القنبلة بقدر ما يُقربها من العزلة الكاملة، ويمنح خصومها تفويضا مفتوحا بالرد.

ويُفهم التلويح الإيراني بالانسحاب من المعاهدة النووية كجزء من إستراتيجية أوسع لإعادة تعريف التوازنات.

وتدرك إيران أن امتلاكها لقدرات تخصيب متقدمة يمنحها ورقة ردع لا تقل أهمية عن الرد العسكري المباشر. ومع تزايد الخروق الأمنية داخل إيران، خاصة بعد تسريبات عن عمليات اختراق استخباراتية إسرائيلية واسعة، يبدو أن طهران تعوّل على برنامجها النووي كآخر أدوات الردع الرمزية المتبقية. لكن هذه الورقة محفوفة بالمخاطر.

وسيعتبر انسحاب إيران من المعاهدة إعلانا صريحا عن نهاية الالتزامات القانونية المتعلقة بالسلمية، ما يفتح الباب أمام إجراءات دولية أكثر تشددا، سواء عبر إعادة عقوبات الأمم المتحدة أو عبر عمل عسكري استباقي من قبل خصومها الإقليميين والدوليين.

ولا تزال إيران تصر في خطابها السياسي على رفض تطوير أسلحة نووية، وتستند إلى فتوى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بتحريم السلاح النووي. إلا أن استمرارها في تجاوز عتبات التخصيب، وعرقلة الرقابة الدولية، يُضعف مصداقية هذا الادعاء، ويزيد من عزلة البلاد على الساحة الدولية.

وفي المقابل، تبدو إسرائيل مستفيدة من هذا الوضع الرمادي؛ فهي تواصل توجيه ضربات مدروسة تحت مظلة “الغموض النووي” التقليدي الذي تلتزمه منذ عقود. فبينما لم توقّع تل أبيب على المعاهدة ولم تعترف رسميا بامتلاكها لسلاح نووي، فإن وضعها كقوة نووية مفترضة يُستخدم لتبرير أي عمل استباقي ضد الخصوم المحتملين.

ولعل أحد الدروس الأساسية من هذا التطور، أن نظام عدم الانتشار النووي بات مهددا ليس فقط بسلوك دولة بعينها، بل بانكشاف بنيته كمنظومة سياسية أكثر منها قانونية.

ومع اختلال ميزان الردع التقليدي، وتآكل الثقة بين الأطراف المعنية، تتحول المعاهدة إلى أداة ضغط سياسية أكثر من كونها إطارا دوليا ناجعا للرقابة ومنع التسلح.

وفي ضوء هذا كله، فإن التلويح الإيراني بالانسحاب ليس مجرد رد فعل على واقعة إسرائيلية، بل انعكاس لتحول أعمق في العقيدة الإستراتيجية لطهران، وتعبير عن تآكل الخيارات الدبلوماسية أمامها.

وفي المقابل، فإن المبالغة في استخدام هذه الورقة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، تُسهم في عزل إيران إقليميا، وتزيد من احتمالات التصعيد الذي يصعب ضبطه لاحقا.