اخبار الإقليم والعالم
العدالة الضريبية في فرنسا.. هل تظل الحسابات السياسية عائقاً؟
في الوقت الذي يعيش فيه الاقتصاد الفرنسي ضغوطاً مالية خانقة، ويبحث فيه صناع القرار عن موارد جديدة لتمويل الخزينة العامة، يبرز نقاش سياسي محتدم حول ما يعرف بـ«الضريبة على الفاحشي الثراء».
غير أن حزب "التجمع الوطني" أقصي اليمين في فرنسا (RN)، بقيادة مارين لوبن، يبدو متردداً، بل ورافضاً لهذه الفكرة، على الرغم من شعارات "العدالة الاجتماعية" التي لطالما رفعها. فهل تحوّل الحزب من خطاب شعبوي مناهض لـ"الأوليغارشية" إلى خطاب مهادن للدوائر الاقتصادية النافذة؟
التناقض بين الشعارات والواقع
رغم حديث لوبن المتكرر عن ضرورة تحميل الأثرياء نصيبهم من الأعباء الوطنية، يكشف النقاش الداخلي في "التجمع الوطني" عن تراجع واضح. فالحزب الذي كان يتهم سابقاً "الأثرياء المزيفين" بنهب أموال العمال وأصحاب المشاريع الصغرى، يجد نفسه اليوم في موقع المهادنة مع "قوى المال"، حرصاً على استمالة الأوساط الاقتصادية التي يمكن أن تسهّل وصوله إلى السلطة،بحسب صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية.
الأمر بات أوضح مع رفض الحزب لمقترح "ضريبة زوكمان" (2% على الثروات التي تفوق 100 مليون يورو). بالنسبة لقيادة الحزب، هذه الضريبة ليست سوى "مسرحية لإرضاء اليسار دون أي جدوى اقتصادية".
جدل داخل المشهد السياسي الفرنسي
وجعل إصرار اليسار على تبني مشروع الضريبة من الموضوع محوراً أساسياً في النقاش العام. فبينما تدافع قوى التقدّم عن الفكرة باعتبارها خطوة نحو العدالة الضريبية، ترى اليمين واليمين المتطرف أنها خطر على الاستثمار وفرص العمل. لوبن نفسها عبرت بشكل ملتبس على قناة "سي.نيوز" قائلة: "من الطبيعي أن يساهم الأكثر ثراءً في مواجهة الصعوبات التي تعيشها البلاد، فامتلاك ثروة كبيرة ليس حصانة ضد المسؤولية."
لكن هذه التصريحات لا تنعكس في الممارسة السياسية، إذ إن برامج حزبها تخلو من إجراءات حقيقية تستهدف الأثرياء.
زوكمان في مواجهة "فرنش تِك"
المقترح الذي قدّمه الاقتصادي الشاب غابرييل زوكمان، والقاضي بفرض ضريبة سنوية بنسبة 2% على كبار المليارديرات الفرنسيين (قرابة 1800 شخص)، أثار عاصفة داخل أوساط روّاد الأعمال والمستثمرين في قطاع التكنولوجيا. في لقاء حاشد بباريس، لم يتردّد رواد الأعمال في وصف الضريبة بـ"السم القاتل" و"آلة تدمير الأحلام"، معتبرين أنها ترسل إشارة سلبية إلى بيئة الابتكار الفرنسية.
زوكمان، من جهته، ردّ بأن التاريخ يبرهن على أن الضرائب العالية لم تمنع الابتكار في السابق، مستشهداً بالولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين حين بلغت معدلات الضرائب على الدخل والرأسمال مستويات قياسية، دون أن يتوقف التقدّم التكنولوجي أو تتراجع روح المبادرة.
المخاوف والاعتراضات
الانتقادات تركزت بشكل خاص على إدراج "الأصول المهنية" ضمن نطاق الضريبة، ما يعني تحميل مؤسسي الشركات الناشئة عبئاً ضريبياً حتى لو لم تكن لديهم سيولة كافية. هذا ما أثاره فيليب أغيون، أستاذ الاقتصاد في "الكوليج دو فرانس"، الذي حذّر من أن هذه السياسة قد تدفع فرنسا إلى خسارة فرصتها في سباق الذكاء الاصطناعي، في إشارة إلى شركات ناشئة واعدة مثل "ميسترال".
أما بعض رواد الأعمال، مثل آرثر مينش، فقد أوضحوا أنهم ببساطة غير قادرين على دفع هذه الضريبة نظراً لامتلاكهم أسهماً غير قابلة للتسييل، ما يجعل فرض ضريبة نقدية عليهم أمراً شبه مستحيل.
حسابات سياسية على حساب العدالة الاجتماعية
يتضح أن رفض اليمين المتطرف للضريبة لا ينبع فقط من قناعة اقتصادية، بل من استراتيجية سياسية أوسع تهدف إلى طمأنة الأسواق وكسب ثقة الدوائر المالية. لكن المفارقة تبقى أن حزباً بنى شعبيته على مهاجمة "الأثرياء الناهبين" يتخلى تدريجياً عن هذا الخطاب لمصلحة براغماتية سياسية قد تُفقده أحد أهم مصادر جاذبيته لدى الطبقات الشعبية.
وبينما يتواصل السجال حول ضريبة زوكمان، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع فرنسا تحقيق التوازن بين العدالة الضريبية وتشجيع الابتكار، أم أن الحسابات السياسية ستظل عائقاً أمام أي إصلاح حقيقي؟