الدراما المصرية تربح ماديا ومعنويا عندما تشتبك مع المجتمع
مر وقت كاف لهضم وجبة الدراما الرمضانية المصرية وإعادة النظر إليها بهدوء لتقييم مسلسلات الموسم، وقياس مدى تعبيرها عن المشكلات المجتمعية الحقيقية، لاسيما أن الكثير من المصريين يختارون عملين أو ثلاثة لمتابعتها، مقررين مشاهدة ما برز من أعمال أخرى بعد شهر رمضان.
يأتي هذا في وقت تنعقد فيه حاليا لجان حكومية للاستماع إلى رؤى صناع الدراما بهدف تطويرها، في ضوء تصريحات الرئيس عبدالفتاح السيسي التي عبّر فيها عن خشيته على الذوق العام للمصريين، داعيا إلى مراجعة وصياغة وتنظيم الدراما التي “كانت صناعة وأصبحت تجارة”، مطلقا إشارة تنبيه إلى أن هناك خللا في التوازن، دون أن يعني هذا المنع.
في ظل تعدد وتشابك مشكلات المجتمع المصري وقضاياه، يبرز السؤال حول ما إذا كانت الدراما المصرية قد اقتربت بصدق وعمق من هذه المشاكل أم أنها اكتفت بتقديم فن شعبوي حول صراعات وهمية ومختلقة أحيانا بين أباطرة المال والجريمة والمخدرات، وهو نوع موجود من الفنون يجذب الناس إليه بفعل خلطة الإثارة والتشويق، إلا أنه لا يناقش موضوعات جادة أو يقدم حلولا لها، فضلا عما يخلفه من أثر سيء في الوعي العام عبر نوعية الشخصيات التي يقدمها وسلوكها وطريقة كلامها.
الحقيقة لا الدراما
انطلاقا من الحقيقة لا الدراما، جاءت قضية اتهام رجل يبلغ 79 عاما من العمر بهتك عرض طفل عمره خمس سنوات داخل دورة مياه مدرسته في محافظة البحيرة (شمال مصر) وصدور حكم قضائي ضده بالسجن المؤبد 25 عاما، لتعيد ذكرى مسلسل مصري مهم عرض خلال شهر رمضان وجذب الأنظار إليه بشدة لجرأته، هو مسلسل “لام شمسية”، من تأليف مريم نعوم، سيناريو وحوار راجية حسن، وإخراج كريم الشناوي.
أثار العمل الدرامي قضية شديدة الحساسية، تتعلق بجرائم التحرش بالأطفال، والتأثيرات النفسية الخطيرة التي تترتب عليها، بأقصى قدر ممكن من المكاشفة دون خدش للشعور العام في مجتمع يمكن وصفه بالمحافظ إلى حد كبير، لاسيما في ما يتعلق بمثل هذه القضايا بوجه عام.
تقبل المشاهدون الأمر، وأقبلوا على متابعة المسلسل بكثافة، حلقة بحلقة، بل إنهم بعد إذاعة حلقته الأخيرة راحوا يتكهنون بحدوث تدخلات رقابية منعت استكمال خيوط درامية، مفترضين وقوع تحرش من جانب الأب بابنته في المسلسل أو فرض إذاعة النشيد الوطني المصري القديم في ختام العمل، دون أدلة مؤكدة على هذا.
كأن المشاهدين أرادوا أن يقولوا إنهم يبغون استكمال مناقشة القضية الخطيرة بكل أبعادها، بلا خوف أو خجل، طالما أنها من القضايا المعروفة والمسكوت عنها في المجتمع، وقد تمت مناقشتها بعمق واحترافية رغم حساسيتها، لكن يبقى تقديم الشكر لصناع العمل لأنهم قدموا أقصى ما يمكن تقديمه، وألقوا حجرا في البحيرة الراكدة، ولم يمض أكثر من شهر حتى تفجرت في الواقع لا الدراما قضية الاعتداء على طفل محافظة البحيرة التي ثار الرأي العام لأجلها.
وعقدت لجنة دراسة التأثيرات الاجتماعية للدراما المصرية والإعلام، المشكلة بقرار من مصطفى مدبولي رئيس الوزراء المصري اجتماعها الثاني برئاسة أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، الذي أكد أن صناعة الدراما لا تنفصل عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تُنتج فيه، ولا بد من فهم هذا السياق وتطوراته حتى تتمكن من الاستجابة له بوعي ومسؤولية.
في مداخلتها، نوهت الكاتبة مريم نعوم بأن الأفكار القابلة للتحول إلى أعمال درامية كثيرة ومتنوعة، ولكن ما يميز فكرة عن أخرى هو مدى صدقها، قائلة “علينا أن نُمهل أنفسنا وقتا كافيا لبلورة المشروعات الفنية، لأن الاستعجال في التنفيذ يؤدي أحيانا إلى نتائج عكسية لا تخدم الهدف المرجو من العمل.”
آلام الأيتام
للحقيقة والإنصاف، فإن مسلسل “لام شمسية” لم يكن طيرا وحيدا ومحلقا في سماء الدراما الجادة النابعة من مشاكل المجتمع، برغم أهميته، فقد شهد موسم الدراما الرمضانية أعمالا أخرى انتهجت نفس النهج الجاد في دروب متعددة.
مسلسل “ولاد الشمس”، من تأليف مهاب طارق وإخراج شادي عبدالسلام، أثار قضية مهمة هي قضية الأطفال الأيتام الذين ينشؤون في دور الرعاية، وحياتهم داخلها، واستغلالهم أحيانا والمتاجرة بألمهم عبر ادعاء محبتهم، وما يواجهونه بعد خروجهم من دور الرعاية لتخطيهم السن القانونية.
وبينما اتخذ المسلسل من مسألة الأطفال الأيتام أرضية انطلق منها برمزية فنية عالية للإشارة إلى استبداد الحكام واستغلالهم للشعوب بوجه عام، فإنه يبقى أحد الأعمال الفنية المهمة التي ستبقى مرجعا دراميا في مسألة مناقشة قضية الأيتام من كل الزوايا، النفسية والمجتمعية والقانونية، وهو ما استكمله بعد ختام آخر حلقة له بفيلم تسجيلي قصير استضاف فيه عددا من خريجي دور الرعاية الذين نجحوا في طريق الحياة، تحدثوا خلاله عن معاناتهم وأوجاعهم بسبب النظرة المجتمعية لهم. وحظي المسلسل أيضا بمشاهدة كثيفة وإشادات واسعة.
في اجتماع لجنة الدراما، أكد المخرج خالد جلال ضرورة ألا يبدأ أي عمل قبل الانتهاء الكامل من كتابة السيناريو حتى لا نقع في فخ التسرع، وهو ما يُضعف جودة العمل ويُفقده تماسكه الفني، مشددا على أهمية إشراك المؤسسات المعنية في تنظيم هذه العملية، من خلال لوائح تشجع على التخطيط طويل المدى بدلا من الإنتاج الموسمي العشوائي.
تجدر الإشارة أيضا إلى مسلسل آخر مهم في هذا الإطار، هو مسلسل “منتهي الصلاحية”، من تأليف محمد هشام عبية وإخراج تامر نادي، وقد ناقش قضية خطيرة تتعلق بإقبال قطاع واسع من الشباب – فضلا عن الكبار – على ألعاب المراهنات الإلكترونية، لما تدره من ربح مادي لفترة، قد تلمع له العيون، في مجتمع ينتشر فيه الفقر بين أغلب الطبقات، وقد يُقبِل فيه البعض على محاولة جني المال دون جهد أو تعب.
في الحقيقة لا الدراما، كان عصام الحضري حارس مرمى فريق النادي الأهلي المصري سابقا قد صرح في فبراير الماضي، قبل عرض المسلسل، بأن هناك لاعبين في أندية مصرية كبرى حددها يشاركون في تطبيقات المراهنات، كما طالب الإعلامي المصري أحمد شوبير وزارة الشباب والرياضة بإعلان اسم اللاعب الذي قالت إنه جرى التحقيق معه واتخاذ إجراء قانوني ضده لهذا السبب، حتى لا يطال الاتهام كل اللاعبين المصريين.
لم يأتِ مسلسل “منتهي الصلاحية” من الفراغ إذًا، ولم يناقش قضية وهمية، إنما قدَّم دراما متكاملة، توسع خلالها في بحث أبعاد المشكلة بعد دراسة تفاصيلها، ليقدم بشكل فني جاد تداعياتها في حيوات الأبطال، وتأتي النهاية الصادمة للمسلسل لتمثل جرس إنذار، يدق ناقوس الخطر، في مجتمع قد تقود الظروف الطاحنة أبناءه إلى استسهال جني الربح السريع، دون أن يدركوا أن ما يثير الشهية قد يقود صاحبه أخيرا إلى الهاوية.
انكسار الحلم
إتاحة الفرصة أمام صناع الدراما للعمل دون رقابة ستكون كفيلة باستكمال الطريق ومواصلة السير في الاتجاه الصحيح
طالب الكاتب عبدالرحيم كمال، في اجتماع لجنة الدراما الأخير، بفتح المجال أمام الكُتاب الحقيقيين ممن يمتلكون الموهبة والدراسة معا، لأن الكتابة الدرامية ليست مجرد سرد، بل هي علم وفن يتطلب وعيا ثقافيا عميقا، مشيرا إلى أن الصناعة في حاجة إلى دعم أصوات جديدة قادرة على تقديم رؤى متجددة، بعيدا عن القوالب النمطية والتكرار.
وجاء مسلسل “قهوة المحطة”، من تأليف عبدالرحيم كمال وإخراج إسلام خيري، ليقدم اشتباكا شاملا مع قضايا عدة في المجتمع، تحت عنوان عام يجمعها هو “انكسار الحلم”، سواء حلم التمثيل والنجومية بالنسبة إلى البطل، أو الكتابة الدرامية، أو المعيشة الكريمة والهروب من وطأة الفقر، أو الصحة والقدرة على توفير العلاج لأنفسنا وأبنائنا ومن نحب، مع خوض خاص في قضية تجارة الأعضاء واضطرار الفقراء إلى بيع أجزاء من أجسادهم، بحثا عن المال.
يمكن القول إن هذه الأعمال وغيرها قدمت نماذج للدراما الجادة والجاذبة في آن، وجاء رد فعل الجمهور إيجابيا في التعاطي معها والإقبال عليها، قبل تشكيل أي لجان حكومية لبحث المسألة، ما يعني أن إتاحة الفرصة أمام المبدعين وصناع الدراما للعمل باستقلالية دون رقابة ستكون كفيلة باستكمال الطريق ومواصلة السير في الاتجاه الصحيح.
معروف أن معظم الأعمال الجادة الناجحة فنيا وجماهيريا كانت من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المصرية (حكومية) بينما جاءت أعمال أخرى استدعت تعليقات سلبية من الإنتاج العربي. ولا يعني هذا تشكيكا في النوايا أو تقليلا من شأن ما يقدمه المنتجون العرب، فأحد الأعمال الجادة التي أشرنا إليها كان من إنتاج عربي، لكن الملاحظة واجبة.
"لام شمسية" لم يكن طيرا وحيدا ومحلقا في سماء الدراما الجادة النابعة من مشاكل المجتمع، برغم أهميته
ولعل ذلك هو ما دفع عماد ربيع رئيس قطاع الإنتاج الدرامي بالشركة المتحدة، إلى الإشارة إلى أن الشركة نجحت خلال العام الحالي في تقديم مجموعة من الأعمال الدرامية الجادة التي حظيت بإشادة جماهيرية، إلى جانب إتاحة الفرصة لعدد من المواهب الجديدة في مجالات الأداء والإخراج والكتابة، بما يعزز من ضخ دماء جديدة في الصناعة وفي تجديد خطابها الفني.
ومن بين ما أشار إليه الرئيس السيسي في تصريحاته التي تلاها تشكيل عدد من اللجان لمناقشة المحتوى الدرامي تنويهه بإمكانية تحقيق أرباح كبيرة من هذا القطاع “حينما يكون العمل جيدا”.
وهو ما يتفق مع الواقع، إذ ثبت إقبال المشاهد المصري على المسلسل الجاد الجيد، ما يعود بالربح المادي على صناع العمل، فضلا عن المكاسب المجتمعية المترتبة على مناقشة قضايا حقيقية.
والمطلوب هو فتح الأفق بشكل أكبر لمناقشة قضايا أكثر، تتعلق بالفساد والتعليم والمرأة والفقر واتساع الهوة بين الطبقات، وما أكثر الموضوعات في المجتمع المصري التي تحتاج إلى طرحها عبر الدراما بشكل جاد يفيد ويبقى ويؤثر.