الجمل يعصر وجمل يأكل العصار
خالد الكابر
نجد أن هناك تفاوتاً واضحاً في الجهود والتضحيات بين البشر، يمكن تمثيل هذا التفاوت بمقارنة بسيطة بين ا...
تعد الأمثال كنزا من كنوز الثقافة لدى أي امة أو شعب ، وهي عند العرب كذلك ، فضلا عن فضل العرب في الفصاحة والبلاغة والبيان ابداعا وتلقيا .
وقد اهتم العرب القدامى بالأمثال وتناقلوها منذ العصر الجاهلي ؛ ولدينا اليوم أمثال عربية فصيحة أُلفت فيها الكتب جمعا ودراسات ، قديما وحديثا ، ولدينا أمثال شعبية ارتبطت بهذا الشعب أو ذاك ، أو بهذه المنطقة أو تلك ، حتى في إطار البلد الواحد .
والمثل يشبه الحكمة في إيجازه وبلاغته ، لكن المثل ارتبط بموقف معين أو قصة معينة أو حدث معين ، فيتمخض عن تلك الحكاية أو الحدث أو الموقف هذا المثل أو ذاك ، وهناك احاديث شريفة تحولت إلى امثال وكذلك ابيات شعرية صارت امثالا تضرب في مواقف مختلفة .
يضرب المثل في المواقف المشابهة لذلك الموقف الذي قيل فيه ، لكن الحكمة قول بليغ موجز صائب ، يأتي به رجل حكيم لديه تجربة وثقافة في الحياة وطول ملاحظة وخبرة.
وقديما قالوا :" قطعت جهيزة قول كل خطيب "
فهذا مثل فصيح جاهلي قيل في قصة مفادها، أن رجلا من الأعراب قتل رجلا آخر من قبيلة اخرى ، فاجتمع الناس يخطبون من القبيلتين
ويتحاورن فيما سيُفعل بالقاتل الذي هرب ، فجاءت امرأة اسمها جهيزة وصاحت في الناس وقالت :" إن القاتل قد قُتل" أي قد ادركوه وقتلوه ، فقال أحد الحاضرين :" قطعت جهيزة قول كل خطيب". لقد توقف الخطباء ، فماذا سيقولون والقاتل قد قُتل ؛ فصار هذا القول مثلا يضرب
إلى اليوم في مواقف مشابهة، عندما يختلف الناس في مسألة ما ، ويأتي واحد آخر من بعيد فيحسم المسألة الذي اختلف فيها الناس ، ويأتيهم بخبر أن القضية قد حُلّت أو انتهت .
لكن المثل الذي سأذكره هنا ، قاله أبي _ ولا فخر _ ولم يكن يعلم أن عبارته التي قالها سوف تتحول الى مثل ، قالها وأنا أسمعه ، ولم يكن أحد غيري عنده ، فما هو هذا المثل ، وما هي قصته التي تمخض عنها؟
لقد كان أبي يتعاطى السجائر بين الحين والآخر ولم يكن مكثرا في ذلك ، وكان أخي الكبير أيضا يدخن أكثر من أبي ، وفي مرة من المرات قرر أخي أن يترك التدخين _وهذا فعل طيب _ لكنه كان كلما رأي والدي يدخن ، يهش للتدخين فيطلب من أبي سيجارة واحدة فقط ، على اعتبار انه ترك التدخين ، فيعطيه أبي ما طلب ؛ فأكثر أخي من هذه الحالة ، فبين الحين والآخر ظل يطلب من أبي سيجارة ، فلما اكتشف أبي في ظل غياب أخي أن أخي قد دخن من السجائر أكثر مما دخن هو ، فعلق على ذلك بصوت مسموع وكأنما يعاتب أو يحدث نفسه ، قائلا : " هذا لم يبطّل السيجارة ، ولكن بطّل يشتري " وبطل معناها هنا ترك اواقلع .
فسمعت هذه العبارة فضحكت ، وأنا في صبي صغير ، فاعجبني هذا التعبير أو التعليق التهكمي ، فكنت أروي القصة لأنها طريفة ،، فانتشرت القصة ، وانتشرت هذه العبارة التي ارتبطت بها حتى صارت مثلا ، واضحت تضرب في مواقف مشابهة ، عندما يترك الشخص الشيء على حد زعمه ولكنه لا يزال يستخدمه أو يطلبه من هذا وذاك ولا يشتريه بنفسه .
فاشتهر هذا المثل _ وخاصة في حالمين _ يستخدمونه في مواقف مشابهة وقد لاحظت بنفسي هذا الاستدعاء للمثل في بعض المواقف
وكان قد انسلخ على قائله الأول منضما إلى جملة الامثال الشائعة.
أجل أنه مثل قاله أبي _ رحمه الله تعالى وطيب ثراه _.