طهران بين عودة العقوبات وانفجار الداخل: برنامج نووي يورّث المقصلة
طهران بين عودة العقوبات وانفجار الداخل: برنامج نووي يورّث المقصلة
تتقدّم الأزمة الإيرانية على مسارين متوازيين يلتهم أحدهما الآخر: مسار خارجي عنوانه انهيار الثقة الدولية ببرنامج طهران النووي وعودة العقوبات الأممية، ومسار داخلي عنوانه تضييق الحيّز الاجتماعي عبر القمع والإعدامات. والنتيجة منظومة حكمٍ لا تملك سوى أدوات الردع في الداخل بعدما خسرت أدوات المساومة في الخارج.

تتقدّم الأزمة الإيرانية على مسارين متوازيين يلتهم أحدهما الآخر: مسار خارجي عنوانه انهيار الثقة الدولية ببرنامج طهران النووي وعودة العقوبات الأممية، ومسار داخلي عنوانه تضييق الحيّز الاجتماعي عبر القمع والإعدامات. والنتيجة منظومة حكمٍ لا تملك سوى أدوات الردع في الداخل بعدما خسرت أدوات المساومة في الخارج.
على المستوى الدولي، تتكاثف الإشارات على نهاية مرحلة “الغموض البنّاء” حول البرنامج النووي. بريطانيا أعلنت في مجلس العموم أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب عند مستوى ٦٠٪ تجاوز ٤٤٠ كيلوغراماً، وهو اقتراب واضح من العتبة العسكرية. بالتوازي، سجّلت عواصم أوروبية في الأمم المتحدة تراجعاً غير مسبوق في الثقة: الحديث لم يعد عن ثغرات في إجراءات التفتيش، بل عن عجزٍ فعلي للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تأكيد الطبيعة السلمية البحتة للبرنامج في ظل نقص التعاون والشفافية. هذه المناخات دفعت لندن وباريس وبرلين إلى تفعيل “آلية الزناد”، ثم أعادت بريطانيا تحديث أطرها القانونية لتطبيق قرارات مجلس الأمن عملياً، بما يعني تشديد القيود المالية واللوجستية على شبكات النظام.
هذا التحوّل القانوني يضرب الأعصاب الحسّاسة لاقتصادٍ ريعيّ يعيش على مسالك التفاف، فيضغط على العملة ويقلّص الإيرادات الصعبة ويجعل الاستيراد أكثر كلفة وتعقيداً. ومع اختناق موارد الدولة، تتراجع قدرة السلطة على امتصاص السخط بالمنح والإعانات، وتتسع دوائر المتضررين من العمال والموظفين والمتقاعدين إلى أصحاب الدخل المحدود والطبقة الوسطى. عند هذه النقطة، يتلاقى “الخارج” و”الداخل”: كل خطوة عقابية تُترجم ارتفاعاً في الأسعار وتعطيلاً للخدمات وتفاقماً لشحّ الدواء والغذاء، فتتغذى موجات الاحتجاج.
هنا يظهر المسار الثاني: إدارة الداخل بالمقصلة. كلما انضغط هامش المناورة الدبلوماسية، تمدّدت يد الأجهزة الأمنية والقضائية. تتحوّل سردية “الدفاع عن البرنامج النووي” إلى مظلة اتهام لأي صوتٍ معارض، وتتكثّف أحكام الإعدام باعتبارها رسالة ضبطٍ إلى المجتمع ورسالة طمأنةٍ لجمهور السلطة. لكن هذا الخيار لا يعالج أصل الأزمة؛ إنه يؤخّر الانفجار ويرفع كلفته. فالإعدامات التي يُراد لها أن تبني هيبة الحكم تتحوّل إلى ملف إدانة دولي، وتدفع مزيداً من الفئات المحايدة إلى خانة الرافضين، فيما يكرّس الاقتصاد المتدهور شعوراً عاماً بأن الموارد تُهدر على مشروع نووي يورّث عزلة لا ازدهاراً.
من زاويةٍ استراتيجية، يتبدّل ميزان الغُّنم والغُرم: برنامجٌ بلا ضمانات سلمية يستهلك ما تبقّى من شرعية، وعقوباتٌ متجددة تُصعّب شراء الوقت، واحتجاجاتٌ أفقية تتعلّم التزامن والتنظيم. أمام هذه المعادلة، تبدو السلطة محكومة بثنائيةٍ عقيمة: إمّا تشديد القمع بما يحفّز انفجارات أكبر لاحقاً، أو تدابير مسكّنة لا تُقنع الخارج ولا تُرضي الداخل.
تدخل إيران طوراً تتقاطع فيه عزلة النووي مع عُسف السياسة الداخلية: مخزونٌ مرتفع من التخصيب يقابله مخزونٌ أعلى من الغضب الاجتماعي. وما لم تُفكّك بنية الفساد والاقتصاد الموازي وتُستبدل سياسة المقصلة بمسارٍ سياسيٍّ شفاف، فإن كل كيلوغرام إضافي من يورانيومٍ مخصّب لن يضيف أمناً، بل سيضاعف كلفة البقاء ويقرّب ساعة الحساب.