«تكنولوجيا الحزن» تزدهر.. الذكاء الاصطناعي يفتح أبواب المخاطر
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية للتسلية أو تسريع المهام، بل أصبح اليوم يخترق أكثر مناطق حياتنا حساسية، وهي المشاعر والذكريات.
تخيل أن تسمع صوت والدك الراحل، أو تدخل في محادثة مع شخص فقدته منذ سنوات، وكأنه عاد للحياة من جديد. بين الدهشة والصدمة، يفتح هذا الباب تساؤلات عميقة عن الأخلاق والإنسانية، ويضعنا أمام "تكنولوجيا الحزن" التي تعيد تشكيل علاقتنا بالفقدان.
لم يتوقع دييجو فيليكس دوس سانتوس أن يسمع صوت والده الراحل مجددا، إلى أن أتاح له الذكاء الاصطناعي ذلك بشكل مبهر جعله يصف الأمر قائلا: "نبرة الصوت مثالية للغاية، كما لو أنه هنا، تقريبًا".
وفقا لرويترز، بعد وفاة والده المفاجئة العام الماضي، سافر دوس سانتوس (39 عامًا) إلى موطنه الأصلي البرازيل ليكون إلى جانب عائلته. لكنه بعد عودته إلى إدنبره في اسكتلندا، أدرك أنه لا يمتلك ما يذكّره حقًا بوالده، باستثناء رسالة صوتية قصيرة أرسلها له والده من المستشفى قبل رحيله.
في يوليو/تموز الماضي، عاد دوس سانتوس إلى تلك الرسالة. وبمساعدة إحدى منصات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في توليد الأصوات، حمّل المقطع الصوتي وأنشأ رسائل جديدة بصوت والده، بل وأعاد محاكاة محادثات لم يتمكنا من خوضها قط. كان التطبيق يصدر صوت والده تمامًا كما اعتاد أن يسمعه في مكالماتهما الأسبوعية: "مرحبًا يا بني، كيف حالك؟ أرسل لك قبلاتي. أحبك يا متسلط"، مستخدمًا اللقب الذي كان والده يطلقه عليه في طفولته.
ورغم تحفظ عائلته المتدينة في البداية، فإنهم وافقوا لاحقًا على خوض هذه التجربة الاستثنائية. تجربة دوس سانتوس لم تكن مجرد لحظة شخصية، بل مثالًا حيًا على اتجاه آخذ في التوسع: استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة الأحياء والموتى على حد سواء.
هذا المجال الجديد، المعروف باسم "تكنولوجيا الحزن"، نما بسرعة في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت شركات ناشئة تعرض خدماتها لمساعدة الناس على التعامل مع ألم الفقد. بعضها يوفر تسجيلات صوتية تحاكي الراحلين، وأخرى تتيح صورًا أو شخصيات رقمية يمكن التفاعل معها بعد الوفاة.
من بين الأمثلة البارزة، شركات ناشئة تتيح للناس تسجيل رسائل أو مقاطع فيديو تُعرض لأحبائهم بعد رحيلهم، وأخرى تصنع صورًا تفاعلية أو أصواتًا قريبة جدًا من الواقع. الفكرة تسوّق على أنها وسيلة لتخفيف الحزن، وربما حتى منعه.
روبرت لوكاسيو، على سبيل المثال، أسس في 2024 شركة خاصة بعد أن فقد والده، تتيح إنشاء "توأم رقمي" للإنسان، يحفظ تفاصيل حياته وصوته وصورته ليبقى حاضرًا لأحبائه بعد وفاته. ويقول إن مئات الأشخاص استخدموا المنصة بالفعل، باشتراكات تبدأ من 25 دولارًا شهريًا.
ومن أبرز القصص، تجربة المهندس مايكل بومر، الذي أنشأ نسخة رقمية طبق الأصل من نفسه بعد أن علم بإصابته بالسرطان في مراحله الأخيرة. وبعد وفاته، وصفت زوجته النسخة بأنها تجسد "جوهر شخصيته بدقة"، مؤكدة أنها تشعر أنه ما زال قريبًا منها بفضل هذا المشروع.
لكن هذا التطور يثير أسئلة أخلاقية كبيرة: هل من المقبول إعادة تمثيل أشخاص رحلوا دون موافقتهم؟ ماذا لو استُخدمت هذه التقنية تجاريًا بطرق غير إنسانية؟ بعض الشركات تفرض قيودًا صارمة، فلا تسمح بإنشاء نسخ تفاعلية إلا بموافقة صريحة من الشخص قبل وفاته، بينما يظل الخوف قائمًا من إساءة الاستخدام.
القلق لا يقتصر على الجوانب القانونية فحسب، بل يمتد إلى التأثيرات العاطفية. هل يمكن لهذه التقنية أن تساعد فعلًا في تجاوز الحزن، أم أنها تحبس الإنسان في دائرة الفقد وتمنعه من المضي قدمًا؟
يقول خبراء الحزن إن من المبكر الجزم بالنتائج، لكنهم يحذرون من التعلق المفرط بالذكاء الاصطناعي كبديل عن الفقد الطبيعي، مؤكدين أننا بحاجة إلى التوازن: الحزن جزء من الحياة، كما هي الذكريات.