"قوة طمأنة".. الغرب يرتب تسوية الحرب الأوكرانية – الروسية
يعكس إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخميس عن التزام 26 دولة، معظمها أوروبية، بالمشاركة في ما أسماه “قوة طمأنة” في أوكرانيا، تحوّلا تدريجيا في نهج الغرب تجاه الحرب الروسية – الأوكرانية. فبعد أكثر من عامين من الدعم العسكري غير المباشر والمساعدات المالية، يدخل الملف الآن مرحلة جديدة تتسم بوضوح أكبر في الالتزام السياسي والعسكري، دون أن تبلغ مستوى الانخراط المباشر في القتال.
ويرى محللون أن صيغة “قوة طمأنة” التي تحدث عنها ماكرون تعكس محاولة مزدوجة: من جهة، تأكيد استعداد الدول الغربية، خصوصا الأوروبية، للعب دور أكثر صلابة على الأرض إذا تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ومن جهة أخرى، توجيه رسالة حازمة إلى موسكو تفيد بأن أوكرانيا لن تُترك وحيدة في مرحلة ما بعد الحرب، وأن إعادة إعمار أمنها لن تكون مشروطة بخضوعها لإملاءات القوة الروسية.
وحرص ماكرون على تأكيد أن “هدف هذه القوة ليس خوض حرب ضد روسيا،” وهي جملة دبلوماسية صُممت بدقة لتجنب تصعيد مباشر مع موسكو، خاصة في ظل الاتهامات الروسية المتكررة بأن الغرب “طرف مباشر” في النزاع. لكن هذه العبارة لا تُخفي البُعد الإستراتيجي الحقيقي للمبادرة، وهو تأسيس حضور عسكري دولي دائم أو شبه دائم في أوكرانيا، يمكن تفعيله بسرعة في حال انهار أي اتفاق لوقف إطلاق النار، أو في حال حاولت موسكو فرض وقائع جديدة على الأرض بعد التهدئة.
صيغة "قوة طمأنة" التي تحدث عنها ماكرون تعكس محاولة مزدوجة: من جهة، تأكيد استعداد الدول الغربية، للعب دور أكثر صلابة على الأرض، ومن جهة أخرى، توجيه رسالة حازمة إلى موسكو تفيد بأن أوكرانيا لن تُترك وحيدة في مرحلة ما بعد الحرب
والمثير في الإعلان هو اتساع رقعة المشاركة لتشمل 26 دولة، مع تأكيد دعم دول أساسية مثل ألمانيا وإيطاليا وبولندا.
ويشير هذا إلى تنسيق غير مسبوق داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي حول مستقبل الأمن الأوكراني، ويكشف عن شبه توافق على تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت قائمة سابقًا، كفكرة نشر قوات غربية على الأراضي الأوكرانية ولو بصفة “غير قتالية”.
ويعيد ماكرون التذكير بتصريحات سابقة أطلقها من نفس المكان في فبراير 2024، حين أبدت فرنسا وليتوانيا استعدادًا نظريًا لإرسال قوات إلى أوكرانيا، وهي التصريحات التي قوبلت حينها بانتقادات وتحفظات حادة داخل أوروبا وخارجها.
واليوم، يبدو أن هذا الموقف بات أكثر قبولا، مع تغير ميزان الحرب وتصاعد الحاجة إلى فرض وقائع جديدة على الأرض تُمكّن أوكرانيا من التفاوض من موقع قوة.
وفي الوقت ذاته يبرز الدعم الأميركي كمكوّن أساسي في بنية هذه “الضمانات الأمنية”. ويشير ماكرون إلى أن دعم واشنطن “سيتبلور في الأيام المقبلة،” ويؤكد وجود “وضوح تام” من الجانب الأميركي، ما يعني أن هناك تفاهمًا سياسيًا على مستوى عالٍ، سواء في البيت الأبيض أو من قِبل دوائر القرار الأمني والعسكري الأميركية.
ومع ذلك، فإن الاعتماد الأوكراني المستمر على “شبكة الأمان الأميركية”، كما وصفها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، يكشف عن هشاشة الثقة في التزام بعض الحلفاء الأوروبيين على المدى البعيد، وربما عن غياب بدائل حقيقية للضمانة الأميركية في نهاية المطاف.
ويأتي تسليط الضوء على غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من استمرار شراء بعض دول الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي، خاصة سلوفاكيا والمجر، ليكشف عن التناقض الأوروبي العميق بين دعم أوكرانيا واستمرار بعض الأنظمة في تمويل موسكو بشكل غير مباشر.
تنسيق غير مسبوق داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي حول مستقبل الأمن الأوكراني، ويكشف عن شبه توافق على تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت قائمة سابقًا
وتشكل هذه النقطة إحراجا إستراتيجيا للاتحاد الأوروبي، وتعزز منطق ترامب القائم على أن أوروبا يجب أن تتحمل مسؤولية أكبر، لا فقط في الميدان العسكري، بل أيضًا في التكاليف الاقتصادية والسياسية للنزاع.
وفي المقابل لوّح ماكرون بفرض عقوبات جديدة على موسكو “بالتنسيق مع الولايات المتحدة،” ما يعكس استمرار رهان أوروبا على أدوات الضغط الاقتصادية كجزء من إستراتيجية الردع الشاملة، رغم الشكوك الواسعة حول فاعلية هذه العقوبات ودورها في تغيير سلوك القيادة الروسية.
ومن الناحية السياسية يعكس حديث ماكرون عن عدم الكشف لروسيا عمّا “نقوم به” إستراتيجية الغموض البناء، التي تهدف إلى فرض ردع نفسي على موسكو دون استفزاز مباشر. لكن هذا التكتيك يظل محفوفًا بالمخاطر، خاصة إذا رأت موسكو في هذه المبادرة مقدمة لنشر وجود عسكري غربي دائم في أوكرانيا، ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري أو سياسي كبير.
وتسعى “الضمانات الأمنية” المقترحة، بحسب ماكرون، إلى منع فرض أي قيود على الجيش الأوكراني خلال مفاوضات مستقبلية. هذا المبدأ يندرج ضمن إستراتيجية غربية أوسع ترفض أي تسوية تُمكّن روسيا من فرض سقف منخفض على السيادة الأوكرانية أو قدراتها الدفاعية، وهي إحدى أهم النقاط الخلافية في أي محادثات سلام مستقبلية.
ويمكن اعتبار إعلان ماكرون تحولا في المقاربة الأوروبية، من دعم محدود ومشروط إلى تموضع دفاعي استباقي. فأوروبا تُعد الأرضية، سياسيًا وعسكريًا، لما بعد الحرب، وتؤسس لنموذج أمني جديد في القارة، يُذكّر بترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن هذه المرة خارج إطار الحرب الشاملة.
“قوة الطمأنة” ليست سوى عنوان لتوازن جديد للقوة قيد التشكل في أوروبا الشرقية، تشارك فيه فرنسا كقوة دافعة، وألمانيا كعنصر محوري، والولايات المتحدة كضامن لا غنى عنه. أوكرانيا ليست فقط ساحة معركة، بل أصبحت ساحة اختبار لإرادة الغرب وقدرته على إنتاج نظام أمني جديد يتجاوز الأطر التقليدية للناتو ويعيد صياغة مفهوم الردع في مواجهة روسيا.