مخيم الهول ساحة مفتوحة للانهيار الأمني في شمال سوريا

وكالة أنباء حضرموت

لم يعد مخيم الهول مجرّد عبء إنساني عالق في الهامش الجغرافي من خارطة الحرب السورية، بل بات ساحة مفتوحة لانفلات أمني متصاعد يهدّد أمن المنطقة واستقرارها.

ومع تواتر محاولات الهروب الجماعي وتزايد النشاطات المتطرفة في قلب المخيم، تتآكل قدرة القوى الأمنية على احتواء بؤرة كانت تُقدَّم في يوم من الأيام كمجرد “مخيم احتجاز مؤقت” لعائلات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وآخر هذه المؤشرات جاء بإعلان قوات الأمن التابعة للإدارة الذاتية الكردية عن إحباط محاولة هروب جماعية لـ56 شخصا من عائلات يُشتبه بارتباطها بالتنظيم الثلاثاء.
وبحسب البيان الرسمي، فقد حاول الفارون استخدام مركبة كبيرة لاختراق بوابة المخيم الرئيسية في عملية وُصفت بأنها “منسقة بدقة ومشبوهة من حيث التوقيت والحجم”.

وتكشف هذه المحاولة، التي لم تكن الأولى من نوعها، عن تصاعد قدرة التنظيم على التخطيط وإعادة التنظيم حتى من داخل المخيم نفسه.

لكن خلف هذه الأحداث الطارئة، يكمُن سياق أشد خطورة. فقد تحوّل مخيم الهول، الذي أنشئ أساسا كمأوى للنازحين خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إلى مركز احتجاز غير رسمي منذ عام 2016، عقب سقوط ما عُرف بـ”دولة الخلافة”.

ورغم أنه لم يُصمم أصلا كسجن أمني، إلا أنه اليوم يحتجز ما يزيد عن 27 ألف شخص، بينهم نحو 6300 من النساء والأطفال الأجانب، من رعايا 42 دولة، إلى جانب الآلاف من السوريين والعراقيين.

وتشكل هذه التركيبة السكانية، التي تتداخل فيها الأبعاد الإنسانية بالأمنية، بيئة شديدة الهشاشة، تُسهم بمرور الوقت في إعادة إنتاج الأفكار المتطرفة، خصوصا في ظل غياب الأفق القانوني، وانعدام برامج إعادة التأهيل أو التعليم أو التأطير النفسي.

ويشكل مخيم الهول بيئة معقدة تكرّس ظاهرة إعادة تدوير التطرف، حيث تتحول الظروف الإنسانية الصعبة إلى أرض خصبة لاستمرار انتشار الفكر المتطرف. فالتجربة داخل المخيم لا تقتصر على مجرد احتجاز عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، بل تمتد إلى إعادة إنتاج الأيديولوجيات العنيفة التي شكلت أساس تكوين التنظيم ذاته.

ويتركز هذا التطرف بصورة كبيرة بين النساء والأطفال، وهما الفئتان الأكثر هشاشة داخل المخيم.

وتشكل النساء، خاصة اللواتي ينتمين إلى أسر مقاتلين أو القياديين في التنظيم، نواة لنشر الفكر المتشدد، حيث تمارس بعضهن دور “الحسبة”، أي رقابة اجتماعية صارمة تقوم على فرض قواعد سلوكية دينية متشددة على بقية ساكنات المخيم. وهذه الرقابة لا تقتصر على الممارسات الدينية فحسب، بل تمتد إلى فرض قوانين صارمة تتعلق بارتداء الملابس، والتعامل مع الغرباء، وحتى التعليم والتربية، مما يعزز من تفاقم الأجواء المتشددة داخل المخيم.

وبالإضافة إلى ذلك، تمثل عملية تلقين الأطفال الأيديولوجيا المتطرفة واحدة من أخطر التحديات. إذ يتعرض الأطفال، الذين هم في مراحل نمو حاسمة، لغسيل دماغ فكري ممنهج عبر دورات تعليمية غير رسمية، وورش عمل فكرية تشرف عليها عناصر محسوبة على التنظيم.

وتهدف هذه إلى تهيئة جيل جديد يؤمن بأفكار “داعش” ويكرسها، مما يجعل المخيم ليس مجرد مأوى مؤقت، بل مصنعا لإنتاج التطرف عبر أجيال متلاحقة.

PreviousNext
ويصف بعض الخبراء الوضع في الهول بـ”القنبلة الديموغرافية مؤجلة الانفجار”، في إشارة إلى أن هذا التجمع السكاني المليء بهذه الأيديولوجيات المتطرفة قد يصبح في المستقبل مصدرا لانفجارات أمنية واجتماعية واسعة النطاق، ليس فقط داخل المخيم بل في المناطق المحيطة به، وربما خارج حدود سوريا نفسها.

ومن دون تدخل دولي جاد، يزداد خطر تحول المخيم إلى بيئة مسلحة داخلية حيث تتصارع خلايا متطرفة، وتنفذ عمليات اغتيال داخلية، وتنتشر ثقافة العنف، مما يزيد من تعقيد جهود الإدارة الذاتية الأمنية ويهدد الاستقرار الإقليمي.

وفي المقابل، تتحمل الإدارة الذاتية الكردية عبء إدارة هذا المخيم المعقد أمنيا وإنسانيا بمفردها، في ظل ضعف الموارد وانعدام الدعم الدولي الفعّال.

وعلى الرغم من قيام قوات سوريا الديمقراطية ( قسد) بحملات أمنية دورية داخل المخيم، فإنّ محاولات القتل، والتسلل، وتفكيك خلايا نائمة لا تزال جزءًا من المشهد اليومي.

ويفاقم هذا الضغط المستمر من ضعف السيطرة الأمنية، خصوصا أن المخيم يقع ضمن منطقة تشهد توترا إقليميا مستمرا بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا من جهة، وبين جيوب تنظيم داعش المنتشرة في البادية السورية من جهة أخرى.

وفي حين ترفض معظم الدول الغربية استعادة رعاياها من النساء والأطفال، خوفا من المخاطر الأمنية أو الكلفة السياسية، تُرك هؤلاء الأفراد في حالة من “التيه القانوني”، لا هم أسرى حرب، ولا لاجئون محميون، ولا متهمون أمام القضاء.

ويغذي هذا الفراغ القانوني الفراغ الأمني، ويُحوّل المخيم إلى ساحة مفتوحة للانهيار.

وكان العراق من الدول القليلة التي بادرت إلى استعادة مواطنيها، معيدا أكثر من 17 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، في محاولة للحد من خطر تمدد الفكر المتطرف عبر الحدود. أما باقي الدول، فاكتفت ببيانات دعم إنساني، دون تحرك فعلي على الأرض.

وبينما تكافح الإدارة الذاتية للحفاظ على الحد الأدنى من الانضباط الأمني، يبقى المخيم بمثابة “ثغرة إستراتيجية”، يمكن لأي طرف إقليمي أو فاعل غير دولي استغلالها لإعادة إشعال الصراع في شمال سوريا.

وصدرت تحذيرات أمنية متكررة خلال السنوات الماضية من أن الهول قد يصبح “الفلوجة القادمة”، في حال انهيار المنظومة الأمنية تماما، أو خروج الوضع عن السيطرة.
ويقول محللون إن كل محاولة هروب، أو عملية اغتيال داخل المخيم، ليست مجرد حادثة، بل مؤشر إضافي على مسار طويل من التآكل الأمني.

ومع غياب الحلول السياسية، وتخلي المجتمع الدولي عن مسؤولياته، يتحول الهول من قضية إنسانية ملحّة إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة.

وهكذا، فإن مخيم الهول لا يشكّل فقط عبئا على الإدارة الذاتية الكردية، بل يمثل خطرا داهما على الأمن الإقليمي والدولي، في منطقة لم تخرج بعد من نيران الصراعات، ولا تحتمل موجة جديدة من العنف والتطرف.