من يجلس في بيت من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة

من يجلس في بيت من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة

لم تكن زيارة علي لاريجاني، الموفد الخاص للمرشد الإيراني، إلى بيروت مجرد محطة بروتوكولية، بل تحولت إلى مشهد سياسي كشف حدود النفوذ الإيراني المتراجع في لبنان والمنطقة. الزيارة التي أرادتها طهران مناسبة لتثبيت حضورها واحتواء تداعيات الضربات التي تلقتها، واجهت ردوداً رسمية وشعبية غير مسبوقة أكدت أن لبنان يتجه نحو تثبيت سيادته ومنع الوصاية الخارجية.

من يجلس في بيت من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة

حفظ الصورة
مهدي عقبائي
وکالة الانباء حضر موت

* بقلم مهدي عقبائي


 يرزح النظام الإيراني تحت وطأة أزمات متفاقمة داخلياً ودولياً. الاقتصاد المنهك، تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، والعزلة الديبلوماسية تشكل طوقاً خانقاً.


لم تكن زيارة علي لاريجاني، الموفد الخاص للمرشد الإيراني، إلى بيروت مجرد محطة بروتوكولية، بل تحولت إلى مشهد سياسي كشف حدود النفوذ الإيراني المتراجع في لبنان والمنطقة. الزيارة التي أرادتها طهران مناسبة لتثبيت حضورها واحتواء تداعيات الضربات التي تلقتها، واجهت ردوداً رسمية وشعبية غير مسبوقة أكدت أن لبنان يتجه نحو تثبيت سيادته ومنع الوصاية الخارجية.


الرئيس جوزف عون أعلن بوضوح أمام الوفد الإيراني أن «السلاح لا يكون إلا بيد الدولة»، مؤكداً أن أي تعاون خارجي يجب أن يمر حصراً عبر المؤسسات الشرعية وفي إطار السيادة. أما رئيس الوزراء نواف سلام فقد وصف المواقف الإيرانية الأخيرة بأنها «تجاوز سافر للأعراف الديبلوماسية»، مشدداً على أن القرار في لبنان يصنعه اللبنانيون وحدهم.


ومن اللافت أن وزير الخارجية اللبناني رفض منذ البداية اللقاء بلاريجاني، وعندما سُئل عن السبب أجاب بحدة: «حتى لو كان لدي وقت، ما كنتُ لألتقيه». هذا الموقف عكس رفضاً كاملاً لمحاولة طهران فرض نفسها مرجعية على الدولة اللبنانية.


المشهد لم يقتصر على الحكومة الحالية؛ فقد تضافرت أصوات برلمانية وسياسية في الاتجاه نفسه. النائب أشرف ريفي كان من أوضح الأصوات حين قال: «لن نسمح بأن يكون لبنان ساحة مستباحة لميليشيات إيران. ما نريده دولة واحدة بجيش واحد وسلاح واحد». كلمات ريفي تعكس موقف شريحة واسعة من النواب الذين رأوا في زيارة لاريجاني استفزازاً صارخاً ومحاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.


كذلك أشار رئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة إلى أن تفويض الجيش تنفيذ خطة نزع السلاح يمثل «سابقة تاريخية» يجب إنجاحها بحكمة وحزم، فيما وصف إعلام محلي الزيارة بأنها «مفخخة بالتوتر»، إلى درجة أن بعض القوى طالبت باعتبار لاريجاني «شخصاً غير مرغوب فيه».


النظام الإيراني بين مطرقة الداخل وسندان الخارج
في الخلفية، يرزح النظام الإيراني تحت وطأة أزمات متفاقمة داخلياً ودولياً. الاقتصاد المنهك، تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية، والعزلة الديبلوماسية تشكل طوقاً خانقاً. لكن التحدي الأبرز الذي يرعب طهران هو تهديد الدول الأوروبية بتفعيل آلية "سناباك" لإعادة العقوبات الدولية بشكل تلقائي. هذا الاحتمال، إن تحقق، قد يدفع النظام إلى زاوية حرجة تقربه أكثر من حافة الانهيار.


إزاء ذلك، يسعى النظام إلى استخدام "أسلحته الصدئة" في المنطقة، عبر محاولة إعادة إحياء أذرعه التقليدية في العراق ولبنان. الهدف من هذا التحرك هو خلق أوراق ضغط إقليمية يمكن التلويح بها بوجه العواصم الغربية، على أمل أن يساهم هذا التصعيد في تأجيل تفعيل آلية العقوبات أو تعطيلها. وكما يقول المثل الشعبي: "من هذا العمود إلى ذاك العمود قد يأتي الفرج".


الأجندة الخفية لطهران
من هنا يمكن فهم إيفاد لاريجاني تحديداً، وهو الرجل الذي حُرم قبل سنة من خوض الانتخابات الرئاسية، ليعود اليوم مبعوثاً فوق العادة. الهدف هو محاولة إعادة ترتيب صفوف الميليشيات الموالية لطهران وإعادة بناء شبكة نفوذ متهالكة في وقت بالغ الحساسية. زيارة لاريجاني بغداد ثم بيروت تأتي ضمن هذا السياق: إنعاش مشروع إقليمي مترنح عبر إظهار أن إيران ما زالت قادرة على تحريك أدواتها.


لكن السؤال يبقى: هل يمكن للنظام أن يستعيد ماء الوجه ويعيد المياه إلى مجاريها بعد كل هذه الانكسارات؟ الواقع اللبناني يشير إلى العكس. فحتى لو أطلق "حزب الله" تهديداته المعهودة وتحدث عن «حرب أهلية» في حال نزع السلاح، فإن ذلك لا يعدو كونه زوبعة في فنجان.
لقد بات واضحاً أن المشروع الإيراني يواجه أزمة بنيوية، وأن لغة التهديد لم تعد ترعب اللبنانيين كما في الماضي. ومع أن النظام يسعى عبر مبعوثيه إلى إظهار أنه ما زال لاعباً محورياً، فإن الحقائق على الأرض تقول إن من يجلس في بيت من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة. فطهران التي تعاني عزلة إقليمية ودولية، وتراجعاً في قدرة أذرعها، ليست في موقع يمكّنها من فرض أجنداتها بالقوة كما كانت تفعل سابقاً.
خاتمة: مرحلة جديدة تلوح في الأفق
إن زيارة لاريجاني، بدل أن تثبت حضور إيران، أظهرت حدود ضعفها. المواقف الصريحة للرئاسة والحكومة والبرلمان ووزارة الخارجية رسمت ملامح مرحلة جديدة: لا سلاح إلا بيد الدولة، ولا وصاية خارجية بعد اليوم. وإذا كان النظام الإيراني يراهن على إعادة تدوير نفوذه عبر جولات ديبلوماسية متأخرة، فإن لبنان يبعث برسالة معاكسة تماماً: زمن التسامح مع الميليشيات انتهى، والمستقبل سيكون للدولة وحدها. وهذه الحقيقة لم تبقَ محصورة في بيروت، بل إنّ همسات مشابهة بدأت تتردّد حتى داخل أروقة النظام الإيراني نفسه، حيث يُنظر إلى إخفاق لاريجاني في بيروت كإشارة إضافية إلى تضاؤل نفوذ طهران وتراجع قدرتها على فرض إملاءاتها.

*کاتب إيراني وعضوفي المجلس الوطني للمقاومة الإيرانیة