العراق أكثر استقرارا مما كان عليه منذ عقود، لكنه لا يزال يواجه تحديات هائلة
استطاع العراق النأي بنفسه عن تداعيات الحرب الإسرائيلية – الأميركية على إيران ما يعزز الاستقرار في البلد المنهك، لكن رغم أن بغداد باتت أكثر استقرارا مما كانت عليه منذ عقود إلا أنها لا تزال تواجه تحديات هائلة في مجالي الأمن والطاقة، بما في ذلك الاعتماد على الغاز الإيراني غير الموثوق به رغم الفرص المحلية غير المستغلة، والحكومة السورية غير المجربة، وتهديد تنظيم الدولة الإسلامية المستمر.
وتأتي هذه التحديات الأمنية والاقتصادية الكبيرة في وقت تسعى فيه بغداد إلى فك ارتباطها بمهمة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وإعادة هيكلة علاقتها مع الولايات المتحدة.
ويرى الباحث نعوم رايدان وديفورا مارغولين في تقرير نشره معهد واشنطن أن التعاون مع الولايات المتحدة في مبادرات الطاقة والأمن يمكن أن يؤدي إلى تعزيز هذه الأهداف العراقية، وفي الوقت ذاته خدمة أهداف سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومواجهة النفوذ الإيراني والصيني في العراق، وخلق المزيد من الفرص الاقتصادية، والمساهمة في جهود أوسع لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
الطاقة
الاستثمار في البنية التحتية للطاقة وتعزيز السيادة الأمنية يمكن أن يمهدا الطريق لاستقرار طويل الأمد
من أهم العلاقات التي تسعى بغداد إلى بنائها مع واشنطن هي في قطاع الطاقة، خاصة الغاز الطبيعي. فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للغاز في العالم، وصادراتها الضخمة من الغاز الطبيعي المسال ساعدت أوروبا على تعويض إمدادات الغاز الروسي خلال حرب أوكرانيا.
وتحتل العراق المرتبة الثانية عشرة عالميا في احتياطي الغاز، وغالبيته من الغاز المصاحب الذي يتم إنتاجه كمنتج ثانوي لاستخراج النفط الخام، خاصة في الجنوب. ومع ذلك، لا يزال يتم حرق كميات هائلة من هذا الغاز هدرا بدلا من جمعها واستخدامها.
ويُعد العراق من بين أسوأ خمس دول في العالم في حرق الغاز، ففي عام 2023، كان يحرق 1.200 مليون قدم مكعبة قياسية يوميا من الغاز، بينما يستورد 1.000 مليون قدم مكعبة من إيران.
وفي ذلك العام، فقدت شبكة الكهرباء العراقية 5.000 ميغاواط نتيجة انخفاض الإمدادات الإيرانية التي غالبا ما تكون غير مستقرة.
ومن الممكن أن يتكرر هذا السيناريو هذا العام. والأسوأ من ذلك أن هذه الواردات باتت معرضة لخطر الانقطاع لأجل غير مسمى بسبب الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل.
ورغم أن بغداد تأمل في إنهاء حرق الغاز بحلول عام 2028، فإنه لا يزال من غير الواضح كيف ستوازن هذا الهدف مع طموحاتها لزيادة إنتاج النفط إلى أكثر من 6 ملايين برميل يوميا خلال هذا العقد (العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك).
وحقق العراق تقدما بطيئا ولكنه مستمر في مواجهة تحدياته الغازية، بما في ذلك حرق الغاز، حيث يعمل رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على جذب المزيد من الشركات الأميركية والدولية للاستثمار في هذا القطاع.
بالنسبة للعراق، فإن مهمة مكافحة داعش لا تزال ضرورية وتحظى بدعم أميركي مستمر
ومع ذلك، لا تزال التحديات الفنية والسياسية قائمة، بما في ذلك التدخل السياسي والفساد والبيروقراطية، والتي تسببت في تأخير المشاريع.
ورغم ذلك، بدأت بعض مشاريع التقاط الغاز تتقدم تدريجيا، من بينها مشروع “نمو الغاز المتكامل” الضخم بقيادة شركة توتال إنيرجي الفرنسية.
ويشمل هذا المشروع تطوير مركز غاز الرطاوي، الذي من المتوقع أن يعالج 600 مليون قدم مكعبة يوميا من الغاز المصاحب من عدة حقول نفطية في جنوب العراق.
وفي يناير، بدأت توتال إنيرجي وشركاؤها، شركة نفط البصرة وقطر للطاقة، ببناء أول منشأة لمعالجة الغاز المصاحب من حقل الرطاوي في محافظة البصرة.
ومن المتوقع أن تعالج هذه المنشأة 50 مليون قدم مكعبة يوميا من الغاز المحترق سابقا، والذي سيُستخدم لتوليد الكهرباء محليا.
وفازت شركات صينية ببعض عقود بناء هذا المشروع، كما أن بكين تشارك في مشاريع غاز رئيسية أخرى في العراق، مثل مصنع معالجة غاز الحلفاية، الذي بدأ العمل في يونيو 2024.
وفي الوقت ذاته، تُعد شركة غاز البصرة، وهي مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية وشركتي شل وميتسوبيشي، أكبر مشروع منفرد لمعالجة الغاز المصاحب في العراق، حيث تعالج غاز حقول الرميلة وغرب القرنة 1 والزبير، وهي من أكبر الحقول في الجنوب.
ومع ذلك، لا يزال قطاع الطاقة في العراق هشا. ففي مايو، فقد العراق نحو 4.000 ميغاواط من الكهرباء بسبب انخفاض إمدادات الغاز الإيراني، وأيضا لأن واشنطن أنهت الإعفاءات لاستيراد الكهرباء الإيرانية في وقت سابق من هذا العام. يجب أن تدفع هذه التحديات بغداد إلى إعطاء أولوية لحل مشاكلها في الغاز والكهرباء.
الشراكة الأمنية
يتطلب تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة والعراق وجود بيئة استثمارية إيجابية، إلى جانب أمن دائم.
ولتشجيع المستثمرين، يجب على العراق إثبات استقراره وأمنه من خلال معالجة المشكلات المتجذرة مثل تدخل القوى الخارجية والنزاعات الداخلية.
وبالنسبة لواشنطن، هذا يعني أن تواصل بغداد تركيزها أولا على مكافحة داعش، وثانيا على تقليص التهديد الذي تشكله الميليشيات المدعومة من إيران (والتي قد تتوسع في حال تصاعدت المواجهات بين إيران وإسرائيل).
ومنذ عام 2014، تتمركز القوات الأميركية في العراق بدعوة من بغداد كجزء من التحالف الدولي ضد داعش. وبعد الهزيمة الإقليمية للتنظيم عام 2017، ركزت واشنطن على تقديم المشورة والمساعدة لبغداد، لاسيما من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية والتمويل.
وفي عام 2023، وبعد المزيد من النجاحات ضد داعش إلى جانب ضغوط إيرانية للحد من النفوذ الأميركي، بدأ العراق عملية إنهاء مهمة التحالف وسعى إلى تحويل علاقته مع الولايات المتحدة إلى علاقة ثنائية مباشرة.
ومنذ ذلك الحين، تغيرت الظروف الإقليمية بشكل كبير، مع بروز أوضاع غير مستقرة في سوريا المجاورة، بالتزامن مع مساعي إدارة ترامب لتقليص التواجد الأميركي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا تزال العلاقة الثنائية قائمة على المصالح الأمنية المشتركة.
يجب على واشنطن وبغداد الاستمرار في مواجهة تهديد داعش متعدد الأوجه، والتصدي لتهديدات الميليشيات المدعومة من إيران
وبالنسبة للعراق، فإن مهمة مكافحة داعش لا تزال ضرورية وتحظى بدعم أميركي مستمر.
وعلى الرغم من أن التنظيم بات أضعف بشكل كبير، حيث نفذ فقط خمس هجمات في العراق حتى الآن في عام 2025، فإنه لا يزال يسعى لاستغلال الانقسامات داخل البلاد.
وإضافة إلى ذلك، يواجه العراق تحديا في التعامل مع السجون المكتظة بعناصر القاعدة وداعش، إلى جانب التزامه بإعادة جميع عائلات عناصر داعش العراقيين من سوريا بحلول عام 2026.
ويأتي كل هذا في وقت تُخفض فيه الولايات المتحدة تمويل برامج إعادة الإدماج والاستقرار، مما قد يؤثر بشكل كبير على قدرة العراق على إعادة تأهيل ودمج العائدين من السجون أو المخيمات.
وعلاوة على ذلك، أدى التدخل الإيراني إلى التأثير سلبا على اقتصاد وأمن العراق. فعلى سبيل المثال، تهدد الميليشيات المدعومة من إيران بزعزعة الحكومة، وتقويض قوات الأمن العراقية، واستهداف القوات والقواعد الأميركية مباشرة.
وخلال الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل، هددت هذه الميليشيات مجددا بضرب المصالح الأميركية إذا تدخلت واشنطن في الحرب.
وإذا أرادت بغداد بناء علاقة إيجابية في مجالي الاقتصاد والأمن مع واشنطن، فعليها تقليص نفوذ هذه الجهات.
وفي ظل استهداف إسرائيل لإنتاج الغاز المحلي في إيران، أصبح من الملحّ أن يعزز العراق تعاونه مع الولايات المتحدة في مجال الطاقة، واستكشاف الفرص الاقتصادية غير المستغلة في قطاع الغاز.
ويجب أن تركز بعض هذه الجهود الثنائية على تقليل الحرق وتطوير الحقول الغازية، كما في حالة حقل عكاز، أكبر حقل غاز غير مصاحب في العراق (أي غير مرتبط بإنتاج النفط)، حيث يقال إن شركة أس.أل.بي الأميركية المتخصصة في خدمات النفط تشارك حاليا في العمل هناك.
ويمكن لجهود أخرى معالجة بعض المشكلات نفسها مع تنويع الاقتصاد العراقي في الوقت ذاته.
بينما تسعى بغداد لإعادة تعريف علاقتها مع واشنطن، فإن التركيز على التعاون في مجالي الطاقة والأمن يمكن أن يخدم مباشرة أهداف الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني
وعلى سبيل المثال يمكن لبغداد أن تتعلم من تجربة السعودية الناجحة في الحد من حرق الغاز. ففي السبعينات، قررت الرياض البدء في جمع الغاز المصاحب من خلال نظام الغاز الرئيسي، وهو شبكة أنابيب تربط مواقع الغاز في أنحاء المملكة. وساهم هذا الجهد في تحقيق طفرة صناعية. واليوم، لا يزال هذا النظام المتطور يستخدم تقنيات من شركات أميركية رائدة.
وأشار تقرير صادر عن وزارة النفط العراقية إلى إمكانية إشراك شركة كا.بي.آر الأميركية في مشروع “نبراس” للبتروكيماويات المتأخر في الجنوب.
ويتميز الغاز المصاحب في العراق بغناه بالإيثان، وهو غاز طبيعي سائل يُستخدم في إنتاج الإيثيلين، وهو عنصر أساسي في أي صناعة بتروكيماوية مستقبلية. ويمكن لبغداد أن تستكشف هذا المجال بجدية مع الشركات الأميركية.
وفي المدى القريب، يمكن أن يشمل التعاون العراقي مع القطاع الخاص الأميركي استئجار وحدات تخزين عائمة لإعادة التغويز لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، حيث يسابق العراق الزمن لتجهيز البنية التحتية اللازمة في الجنوب.
وتُعد الولايات المتحدة رائدة عالميا في هذا المجال، مما يتيح فرصة تعاون إضافية.
وأظهرت زيارة وفد تجاري أميركي رفيع المستوى إلى بغداد مؤخرا أن توسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة أمر ممكن. ولكن لنجاح هذه الجهود، فإن الأمن والاستقرار في العراق أمران حاسمان، لاسيما في ظل المخاطر الجيوسياسية التي فرضها الصراع الإيراني – الإسرائيلي. وبشكل أكثر تحديدا:
يجب على واشنطن وبغداد الاستمرار في مواجهة تهديد داعش متعدد الأوجه، والتصدي لتهديدات الميليشيات المدعومة من إيران، وضمان عدم قدرة أي دولة أو جهة فاعلة غير حكومية على زعزعة استقرار الوضع الأمني الداخلي.
وينبغي للمسؤولين الأميركيين والعراقيين الاستمرار في التخطيط وتنفيذ المرحلة الانتقالية لما بعد التحالف. ويشمل ذلك توقيع اتفاقية لوضع القوات أو تفاهما ثنائيا آخر يحدد الوضع القانوني لاستمرار وجود القوات الأميركية في العراق. فإلى جانب السماح لواشنطن بمواصلة دعم العراق في مكافحة داعش، فإن مثل هذا الاتفاق سيبعث برسالة لإيران وشركائها من الميليشيات بأن بغداد قد أعطت الأولوية لعلاقتها مع واشنطن، كما سيُظهر للمستثمرين من القطاع الخاص أن الحكومتين تضعان أمن العراق في المقدمة، مما يجعل البلاد بيئة أكثر جاذبية للاستثمار.
وبينما تسعى بغداد لإعادة تعريف علاقتها مع واشنطن، فإن التركيز على التعاون في مجالي الطاقة والأمن يمكن أن يخدم مباشرة أهداف الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، وخلق فرص اقتصادية جديدة، وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وتقليص المساحات غير الخاضعة للحكم التي غالبا ما تستغلها الجهات المعادية.