نفوذ روسيا في الساحل يهز ثوابت الجزائر العسكرية
رغم العلاقات الوطيدة تقليديا بين الجزائر وروسيا، واعتماد الجزائر التاريخي على الأسلحة الروسية، يشعر المسؤولون العسكريون الجزائريون الحاليون بقلق متزايد إزاء توسع نفوذ روسيا في منطقة الساحل ودعمها لقائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر.
ويرى الكاتب فرانسيس غيلاس في تقرير نشره موقع “عرب دايجست” أن هذا يدفع الجزائر إلى النظر في توثيق التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وربما تعديل إستراتيجية شراء الأسلحة.
ومنذ استقلال الجزائر عن فرنسا في 1962، جمعتها علاقة جيّدة بروسيا، وأصبحت ثاني أكبر مشتر للأسلحة منها بحلول 2010 (بعد الهند). لكن المسؤولين العسكريين الجزائريين يشعرون اليوم باستياء متزايد من الانتشار العسكري الروسي ودعمه لحفتر في شرق ليبيا.
وتستخدم روسيا خمس قواعد عسكرية جزائرية لتنفيذ عمليات في منطقة الساحل، وخاصة في مالي، بما يقوض الاستقرار على حدود الجزائر الجنوبية والشرقية.
واستولت روسيا بذلك على دور فرنسا السابق في المنطقة، بنسخة من الاستعمار الجديد، حيث تُعتبر هذه النسخة أكثر خطورة واستغلالا.
وتصاعدت التوترات عندما استدعت مالي سفيرها من الجزائر بعد أن أسقطت جارتها إحدى طائراتها المسيرة باستخدام نظام مراقبة محلي الصنع عبر الأقمار الصناعية.
ودفع هذا التطور الجزائر إلى إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المالية. وحذرت في الصيف الماضي المجلس العسكري في مالي وفيلق أفريقيا الروسي الجديد (المعروف سابقا باسم مجموعة فاغنر) من الاقتراب من حدودها أثناء ملاحقة المتمردين المرتبطين بالأعمال الإرهابية في العاصمة باماكو. كما حذر الجنرالات الجزائريون حفتر من الاستيلاء على حوض غدامس النفطي بالقرب من الحدود (الموقع النفطي الرئيسي الوحيد في ليبيا الذي لا يخضع لسيطرته)، ما دفعه إلى التراجع.
ولا تزال الجزائر تتذكر الهجوم الإرهابي الذي شنه مسلحون دخلوا من ليبيا على حقل للغاز بتيقنتورين في 2013.
وفي ضوء ذلك صرّح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في فبراير بأن الجزائر ستعترف بإسرائيل إذا أُقيمت دولة فلسطينية. كما أبدت الجزائر اهتمامها باقتناء نظام دفاع راداري أميركي.
وبينما يدعم ترامب مبيعات الأسلحة الأميركية، فإن مثل هذه الخطوة قد تُخل بالتوازن الإستراتيجي في شمال أفريقيا.
وتدرك الجزائر ضرورة التكيف في منطقة الساحل، حيث حقق المغرب تقدما اقتصاديا ودبلوماسيا مع دوله الخمس. وتنشط روسيا الآن في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.
ونجحت الجزائر في تركيب 2600 كيلومتر من كابلات الألياف الضوئية لتعزيز الاتصال مع النيجر وموريتانيا ودول الساحل الأخرى، وهي على وشك انهاء بناء خط سكة حديد بطول 960 كيلومترا من الجزائر العاصمة إلى تندوف، ما سيمكن من تطوير خام الحديد في منجم غار جبيلات.
ويجري حاليا تنفيذ طريق سريع جديد يربط تندوف بمدينة الزويرات في موريتانيا، كما أوشكت أشغال مدّ خط أنابيب الغاز من النيجر إلى الجزائر على الانتهاء.
وأشارت الجزائر، الغنية بمواردها المعدنية المتنوعة، إلى ترامب بأنها سترحب بالاستثمارات الأميركية التي تُركز عادة على المحروقات.
الجزائر تجد نفسها مضطرة إلى التكيف مع واقع جديد، يعيد ترتيب مراكز القوة والنفوذ في القارة
وكانت الولايات المتحدة قد شاركت في المراقبة الاستخباراتية عبر الأقمار الصناعية للبنية التحتية للنفط والغاز في الجزائر خلال الحرب الأهلية في التسعينات، بينما فرضت أوروبا حظرا صارما على توريد الأسلحة إلى الجيش الوطني الشعبي.
ويجب النظر إلى إعلان تبون في إطار جهد دبلوماسي أوسع، حيث تطمح بلاده إلى استغلال حقيقة إدراك ترامب أن الجزائر وسوريا ستكونان الدولتين الأكثر قيمة للاعتراف بإسرائيل (بعد المملكة العربية السعودية).
وعلى غرار الهند التي طالما فضّلت الأسلحة السوفييتية والروسية، أعادت الجزائر تقييم مشترياتها العسكرية في ضوء إخفاقات موسكو المبكرة في حرب أوكرانيا سنة 2022.
وهي تسعى الآن إلى الحصول على أسلحة أميركية متطورة لتعزيز قدراتها العسكرية ونفوذها الجيوسياسي.
وتُدرك، مثل الهند أيضا، التفوق التكنولوجي الأميركي، على الرغم من المكاسب الروسية في مجال الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت. ويُعدّ شراء الأسلحة من الولايات المتحدة وفسح مجال التعدين أمام الشركات الأميركية وسيلة فعّالة لموازنة علاقتها مع روسيا.
ويحظى السياق التاريخي بأهمية كبيرة هنا. فبعد 1962 تعاون جهاز المخابرات الجزائري بشكل وثيق مع جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي)، لكن هذا لم يُسفر عن تحالف رسمي.
وفشل الاتحاد السوفييتي في ضمان حق استخدام قاعدة مرسى الكبير البحرية الجزائرية. وتعاونت أجهزة المخابرات الجزائرية منذ الاستقلال مع نظيراتها على الصعيد العالمي.
الجزائر تدرك ضرورة التكيف في منطقة الساحل، حيث حقق المغرب تقدما اقتصاديا ودبلوماسيا مع دوله الخمس
وعلى الرغم من أن العديد من كبار الضباط تدربوا في الأكاديميات الروسية، إلا أن صفقات الأسلحة التي أُبرمت بعد سنة 2000 مع ألمانيا (دبابات) وإيطاليا (سفن مراقبة ومروحيات) والولايات المتحدة والصين وتركيا (رادارات وطائرات مسيّرة وأنظمة أخرى) خلقت جيلا جديدا من الضباط ذا تدريب دولي أوسع.
وشرعت الجزائر في حملة كبرى لاقتناء الأسلحة في أعقاب ارتفاع أسعار النفط بعد 1999. وكانت روسيا المزود الرئيسي بفضل علاقاتها طويلة الأمد.
ولم تُدِن الجزائر الغزو السوفييتي لأفغانستان، ودعمت التدخّلات الروسية في الشيشان، وعارضت الغزو الأميركي للعراق في 2003، وانتقدت دعم الغرب لإسرائيل. كما تواصل دعم فلسطين، واستخدمت مقعدها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، وإن كان ذلك بنجاح محدود.
والتزمت الجزائر، منذ الاستقلال، بمبدئها الدبلوماسي الراسخ الداعي إلى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية. لكن هذا المبدأ نُحي جانبا عندما نشر الرئيس هواري بومدين قواتا وطائرات لدعم مصر خلال 1967 و1973، ومؤخرا عندما تدخلت الجزائر في تونس لمحاربة الجماعات الإسلامية بعد 2011 (بموافقة الحكومات التونسية المتعاقبة).
واعتبرت العقيدة الإستراتيجية الجزائرية تقليديا دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) خصوما.
ومع ذلك، يشعر الضباط الجزائريون الشباب بخيبة أمل من استغلال روسيا لليبيا لتوسيع نفوذها في أفريقيا وتقويض الأمن الحدودي.
الانسحاب الفرنسي من منطقة الساحل مثّل فرصة لقوى جديدة مثل روسيا لتوسيع نفوذها عبر شركات أمنية خاصة
وقد يكون اعتماد الجزائر الكبير على روسيا (التي تزودها بـ73 في المئة من أسلحتها) محل إعادة نظر الآن.
وقد يدفع هذا التغيير أوروبا إلى مراجعة نهجها تجاه الجزائر والمغرب العربي الأوسع، وهي منطقة تربطها بها علاقات اقتصادية وأمنية وثقافية عميقة، إضافة إلى انتشار ملايين المواطنين من أصول شمال أفريقية عبر بلدان التكتل الأوروبي.
وقد يشجع ذلك الاتحاد الأوروبي أيضا على استثمار جهوده الدبلوماسية في تحسين العلاقات بين الجزائر والمغرب، وهي المهمة التي أهملها حتى الآن.
وتأتي التحولات الراهنة في توجهات الجزائر الدفاعية ضمن سياق دولي وإقليمي معقد، تتقاطع فيه متغيرات كبرى فرضت على العديد من الدول مراجعة أولوياتها الإستراتيجية. فمنذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية بدأت صورة روسيا كحليف عسكري موثوق تتراجع، بعد أن كشفت المواجهة عن نقاط ضعف في منظومتها التسليحية والتكتيكية، ما دفع حلفاء تقليديين مثل الجزائر إلى إعادة النظر في مدى الاعتماد على موسكو كمصدر شبه حصري للسلاح.
وفي موازاة ذلك مثّل الانسحاب الفرنسي من منطقة الساحل فرصة لقوى جديدة مثل روسيا لتوسيع نفوذها عبر شركات أمنية خاصة، ما أثار حفيظة الجزائر التي تنظر بعين القلق إلى أي تمركز عسكري أجنبي على حدودها الجنوبية، خصوصاً في مالي وليبيا، وهي مناطق لطالما اعتُبرت امتدادا إستراتيجيا لأمنها القومي.
ولا يمكن فصل هذه التحولات عن التنافس الإقليمي المحتدم بين الجزائر والمغرب على النفوذ في غرب أفريقيا، إذ استطاع المغرب في السنوات الأخيرة تحقيق اختراقات اقتصادية ودبلوماسية ملموسة في دول الساحل، ما حفّز الجزائر على تعزيز حضورها هناك، ليس فقط عبر المشاريع الاقتصادية مثل خطوط الألياف البصرية والغاز، بل أيضاً من خلال إعادة تموضعها الدبلوماسي والأمني.
وهذا التوجه مدفوع أيضاً بصعود جيل جديد داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية، تلقّى تدريبه في دول متعددة، ولم يعد يحمل الارتباط الأيديولوجي نفسه بالاتحاد السوفييتي السابق أو روسيا اليوم، بل أصبح أكثر انفتاحاً على الشراكات المتنوعة، بما فيها الشراكة مع الولايات المتحدة التي تُعدّ في طليعة الدول المطورة لتقنيات الدفاع المتقدمة.
ومع احتدام التنافس الدولي على أفريقيا بين واشنطن وموسكو وبكين، تجد الجزائر نفسها مضطرة إلى التكيف مع واقع جديد، يعيد ترتيب مراكز القوة والنفوذ في القارة.
ولم تعد الجزائر، كما في السابق، تكتفي بمواقف الحياد الإستراتيجي أو الاعتماد على توازن تاريخي مع القوى الكبرى، بل باتت تنظر إلى شراكاتها الدفاعية من زاوية المردودية التكنولوجية والسياسية، في ظل أسواق تسليح تشهد تحولات جوهرية من الأسلحة التقليدية إلى الأنظمة الذكية والطائرات المسيّرة والرصد الفضائي.
ولعل انفتاح الجزائر المتزايد على التعاون مع الولايات المتحدة ليس فقط خياراً أمنيا، بل هو جزء من مقاربة شاملة لإعادة تموضعها الجيوسياسي في عالم بات أكثر اضطراباً وتنافسا.