حرب إسرائيل وإيران: تعزز دحر محور المقاومة أم بعثه
اختلفت أوضاع ما يسمى بمحور المقاومة بشكل دراماتيكي بعد اندلاع المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، على خلفية التخطيط لتدمير برنامج طهران النووي وإسقاط النظام بالقوة، ويخوض مركز المحور الحرب لأول مرة، في سياق مرحلة تعزز نهايته أو تعيد بعثه مرة أخرى.
وبدأت المسيرة الطويلة بمحاولات إيران تصدير ثورتها التي غيرت وجه البلاد قبل نهاية سبعينات القرن الماضي، والذي جعله زعيمُها الراحل آية الله الخميني أول مبادئ الثورة الإسلامية، وتنتهي الآن بعد قرابة نصف قرن بمسعى إسرائيل نحو تحفيز ثورة داخلية مضادة لتغيير النظام الديني، بعد توجيه ضربات من شأنها تقليص قبضته السُلْطَوية على الشعب.
ورَاهَنتْ تل أبيب على ثورة ضد النظام الثوري، لكنه رِهَان مَحفُوف بفشل؛ فالنظام القمعي الإكراهي في طهران يعيش أسوأ مراحله بعد تقليص نفوذه الإقليمي بقصقصة أجنحته وعلى وقع غضب شعبي نتيجة أزمات اجتماعية واقتصادية مركبة، يجد في المواجهة المُباشرة مع إسرائيل فرصة نادرة لاستعادة البريق وغَسْل السُمعة وبعث محور المقاومة.
وقابل رِهَان تل أبيب، رِهَان مُضاد من طهران؛ على أنها الآن في موقف يصنع الدعاية لنفسه بنفسه دون حاجة إلى جعجعة اعتاد عليها قادة هذا المحور، أصابت الملايين بالملل والإحباط؛ وها هي إيران فعليًا موضوعة في مكان الطرف المواجه للاستكبار والظلم الإسرائيلي المُمْعِن في سفك الدم الفلسطيني في قطاع غزة.
في محاولة للبقاء بمشهد الأحداث بعد فشل جماعة الإخوان في تجربة الحكم بالمنطقة العربية، انخرطت جماعة الإخوان في مرحلة "الإسلام الثوري"، الذي بدأ يتراجع بعد هجوم طوفان الأقصى
والرهان الإسرائيلي ذاته، الذي ربما أقنعت به تل أبيب واشنطن، ما كان لينجح دون تدخل خارجي، وقد يكون العدوان الإسرائيلي جاء كطوق نجاه للنظام الإيراني من سقوط محتمل عبر إكمال دورة الاحتجاجات الشعبية.
ويختلف الوضع الآن بعد اندلاع المواجهة المباشرة؛ فمن السهل وَصْم أيّ تحرك جماهيري مُناهِض للنظام بالخيانة والوقوف في صف الأعداء، كما أن حماس المعارضة الإيرانية في الخارج لإجراء التغيير سوف يتأجل، لأنها لا ترغب في تغيير آت على ظهر دبابة إسرائيلية، وتراه نقطة سلبية وانتقاصًا من نضال ثوري سلمي استمر لعقود.
ومن المُرجَح أن يستثمر النظام في إيران الرِهَانات الإسرائيلية الخاطئة لصالحه مُرمِمًا انكساراته، ومُعَوضًا بعض خسائره الفادحة في الإقليم مؤخرا، ومحاولا إعادة التموقع في قلب مشهد الأحداث.
ويُؤشِر هذا الاستثمار الجاهز على أن محور المقاومة ربما يعود مجددًا ليس بنفس القوة التي كان عليها، لكنه يعود لأن المركز يصمد في الحرب حتى الآن، وسوف يقطف ثمارا دعائية، بحجة أنه واجه قوة إقليمية متعجرفة.
ولم يتمَنّ قادة النظام الإيراني هذه اللحظة؛ وطالما أداروا الصراع بطريقة الحرب عبر وكلاء لا يملكون قرارًا، وحيثما يُوضَعون من قِبل مركز المحور يكونون، وفقًا لتعبير زعيم حزب الله الراحل حسن نصرالله.
وانهارت سمعة إيران ووصلت إلى الحضيض وهي تلعب بأوراق المناورات السياسية والتفاوض من وراء ستار، فيما ضحايا الحرب الإسرائيلية يسقطون في فلسطين ولبنان.
وتكرر تأكيد طهران سابقًا من خلال حركات عسكرية استعراضية محسوبة وغير مؤلمة للإسرائيليين، أنها ليست معنية بالدخول في حرب والتورط في صراع موسع انتقامًا لعموم جماهير المحور وقادته ورموزه الكبار، مثل: إسماعيل هنية وصالح العاروري وحسن نصرالله ويحيى السنوار.
ووضعت المواجهة الحالية طهران في حَيز محاولة استعادة السُمعة والبريق داخل أوساط محورها الخامل، وعلى المستوى العربي والإسلامي أيضًا؛ بالنظر إلى ما تسببت فيه حروبها بالوكالة من نفور وغضب عربي من قوة إقليمية أنشأت أذرعًا مسلحة متقدمة في العمق العربي تتلقى عنها الضربات وتحول دون وصول الحرب إلى حدودها.
واختلف الوضع بعد تقليص قوة الوكلاء إلى الحد الأدنى وبدء إسرائيل في استهداف مركز المحور المكشوف في العمق؛ ما يجعل قطاعًا من الجماهير العربية والإسلامية التي سخطت على إيران ومنها على خلفية التسبب في تقويض بعض الدول العربية بالتوازي مع تأمين شعبها وحدودها، يتعاطف معها لاستهدافها في العمق القوة التي ارتكبت أبشع الجرائم ضد العرب في غزة وغيرها.
وقفز التنافس الإقليمي بين إيران وتركيا إلى داخل مربع جديد بعد اندلاع المواجهة الأخيرة وبعد الاستهداف المُتبادل بين إسرائيل وإيران، وعقب تدشين النموذج السوري الموالي لأنقرة، وهو نموذج يثير السُخط داخل أوساط الجماعات الدينية إلى جانب النفور الشعبي العربي والإسلامي لتقديمه تنازلات للولايات المتحدة وإسرائيل، مقابل التمكن من إدارة سلطة هشة.
ويتكرس تدريجيًا التمايز بين الحالة الإيرانية ومحور المقاومة الذي ضم إلى جانب المركز في طهران أذرعًا سنية وشيعية، مقابل الحالة التركية التي رَاوَحَت في التوظيف بين أدوات وأذرع سنية، ولم تُبارح نهجها القائم على خلق مساحة التقاء مع الولايات المتحدة وإسرائيل، على الرغم من توالي التصريحات الحادة ورفع الشعارات الشعبوية.
وعلى الرغم من الضربات والهزات التي أصابت محور إيران، لكنه في وارد استعادة ترميم انكساراته، ما لم تحدث مفاجآت في مَسَارات الحرب لصالح الحلف الأميركي – الإسرائيلي، وما لم يتصدع الداخل الإيراني، الذي يبدي تماسكًا ظاهرا في مواجهة عدوان خارجي.
ويُفصِح المشهد العام عن هيمنة مُتضعضِعة لصالح أذرع إيرانية بعد حملة تقويض مُكثفة استمرت لعامين، بالتوازي مع مصير مجهول للمركز، مقابل هيمنة مُتهمة بالتخاذل ومنح التنازلات لأذرع تركية سنية مسلحة.
وبخلاف تنظيم القاعدة الذي انقسم إلى شقين، أحدهما مُنضو في الحلف التركي ومُعَاد لإيران، والآخر يتماس مع المصالح والحسابات الإيرانية، فإن جماعة الإخوان لعبت بشكل مختلف ومَسَكتْ العصا من المنتصف وتمَاهَت مع المحورين التركي والإيراني في مراحل مختلفة.
وانخرطت جماعة الإخوان في الإقليم، بما فيها الفرع الفلسطيني (حركة حماس) في مرحلة ما يسمى بـ”الإسلام الديمقراطي” تحت إشراف ورعاية تركيا وقطر، وعناية أميركية – أوروبية.
وفي محاولة للبقاء بمشهد الأحداث بعد فشل جماعة الإخوان في تجربة الحكم بالمنطقة العربية، انخرطت جماعة الإخوان في مرحلة “الإسلام الثوري”، الذي بدأ يتراجع بعد هجوم طوفان الأقصى وتداعياته الكارثية.
وتنقسم جماعة الإخوان إلى شقين على وقع المستجدات في المشهد الإقليمي والدولي المتسارع؛ أحدهما يدعم إيران في مواجهة إسرائيل مُتمثِلًا في الفرع المصري، وهو ما وضح في البيان الأخير الصادر عنه، حيث أبدى دعمًا وتضامنًا مع إيران.
تل أبيب تراهن على ثورة ضد النظام الثوري، لكنه رِهَان مَحفُوف بفشل؛ فالنظام القمعي الإكراهي في طهران يعيش أسوأ مراحله بعد تقليص نفوذه الإقليمي
وفيمَا شن إخوان سوريا هجومًا على من أصدروا بيان إخوان مصر، واصفين الإيرانيين بالقتلة الذين دمروا الحاضرة العربية في سوريا ولبنان واليمن.
ويتوقف مستقبل محور الإسلام السياسي خاصة تلك الفصائل من تنظيمي القاعدة والإخوان المُتمَاهية والمُنضَوية داخل محور إيران، على نتائج الحرب الحالية بين إسرائيل وإيران، فأذرع المحور المنهزمة عمدت إلى تصوير هزيمتها على أنها انتصار، فما الظن بكيفية التعامل مع الصمود الإيراني في المواجهة، وتعامل مركز المحور بقوة في مواجهة إسرائيل.
ولم تفوت الفصائل السنية والشيعية المُنضَوية داخل محور إيران فرصة استثمار الألم العسكري والإنساني الذي تصيب به إيران إسرائيل، وإعادة إحياء محور تراجع وبناء أجنحة شبه مقطوعة ومفصولة عن المركز.
وشتان بين مرحلة الخذلان والتخلي عندما أحجمت إيران عن التدخل العسكري المباشر لإنقاذ أذرعها عملًا بنظرية وحدة الساحات، ما مكّن إسرائيل من الاستفراد بكل ساحة على حدة فسقطت على التوالي حركة حماس ثم حزب الله، ومرحلة أخرى تجد إيران فيها نفسها أمام أمر واقع فليس لديها شيء تخسره، ولا مفر أمامها من خوض المواجهة التي طالما هربت منها وحرصت على ألا تخوضها.
وتقدر إيران على وقع هذا الاضطرار أن تلملم كل خيبات المرحلة السابقة؛ حتى أنها يمكنها أن تُروج الآن أو بعد أن تضع الحرب أوْزارَها إلى أنها انتقمت وردت بأثر رجعي على اغتيال قادة المحور في غزة ولبنان، علاوة على قادة الحرس الثوري في سوريا، إلى جانب من اغتالتهم إسرائيل من علماء وعسكريين بالعمق الإيراني.
وتختلف المرحلة الحالية عن سابقتها، فإيران التي كانت بارعة في لعبة حافة الهاوية من خلال الوكلاء والحرص على الاكتفاء بالاستثمار السياسي لنشاط الأذرع وتوخي عدم الانخراط في مواجهة مباشرة، الآن تخوض هي الحرب التي سوف يتوقف على نتائجها مستقبل نظامها السياسي، وما تبقى من أذرعها التي تنتظر ما يُحْييها وينتشلها من مُستنقع الهزيمة.