"حقول القوة"..
تجربتان عراقيتان تتحاوران في معرض فريد من نوعه
افتتح في العاصمة الألمانية برلين معرضان شخصيان للفنانين التشكيليين العراقيين يونس العزاوي المقيم في برلين، وكريم سعدون المقيم في جونينبورغ في السويد (25 أبريل 2025 ـ 25 مايو 2025). وعلى الرغم من أنهما يحملان نفس العنوان “حقول القوة”، وأقيما في جزء المدينة الغربي (كوزوند برونن) وتحديدا في منطقة فيدنج، إلا أن أحدهما أقيم في قاعة العرض الأولى في شارع كولونيستر120 والثاني في قاعة العرض الثانية في شارع فرينوالدر21.
الفرق بين القاعتين أن الأولى لها جمهور مختلط من الفنانين ومتذوقي الفن وغيرهم، أما الثانية فجمهورها تحديدا من الفنانين والكتاب والمهتمين بالفن، وقد افتتح المعرض الأول في السادسة مساءً وفي الساعة الثامنة في نفس المساء افتتح المعرض الثاني، واستمر حفل الافتتاح إلى ساعة متأخرة من الليل وسط نقاشات في الفن والحياة وتخلله حديث تعارف وتبادل الآراء.
لقاء بين عالمين
تعد هذه التجربة في العرض المشترك هي الثانية للفنانين خلال عامين حيث كانت لديهما تجربة عرض أولى في غاليري “الفن من أجل الحرية” في فيينا في النمسا، وكانت تجربة ناجحة ومثمرة في التعرف على المشتركات التي تجمع أعمالهما وطريقة تفكيرهما إزاءها، والتعرف عن قرب على مستوى التقنيات التي يستخدمانها ومدى انسجامها مع حجم التجربة.
حفل الافتتاح بدأ بكلمة المسؤولة الفنية تيتانا التي عرفت بالفنانين. وقالت إن هذا المعرض من المعارض المتميزة والناجحة، ويؤكد ذلك الحضور المتميز من جمهور من مختلف المشارب. وأضافت “يجمع المعرض بين تجربتين تتقاطعان من حيث العمل التقني، ولكنهما منسجمتان في طروحاتهما التي تخص الإنسان والوجود.”
ولفت المدير الفني للمعرض كريستيان أوتو، إلى أهمية العرض المشترك واعتبره من المعارض المميزة والمهمة في هذا الغاليري الذي احتضن الكثير من التجارب والرؤى والأساليب الفنية المختلفة.
وتحدث الفنانان العزاوي وسعدون عن أعمالهما المعروضة “46 عملاً توزعت على جدران القاعتين،” وكانت من بينها أعمال منفذة بتقنيات مختلفة على قماش الرسم وعلى الورق.. كما تحدثا عما تثيره التجربة المشتركة في العرض.
وفي المطوية المرافقة للمعرض الثاني في جاليري (كلتور بالاس العالمي) كتب منظم المعرض والقيّم عليه الفنان والناقد هنريك ياكوب: “حقول القوة” يقام من خلال سلسلة “جارنا يرسم أيضًا، وأفضل منا بكثير”، نقدم فيه معرضًا طال انتظاره لأعمال رسامنا المحلي والرائع يونس العزاوي، في تجربة متميزة، وقد اختار صديقه الفنان والرسام كريم سعدون وهو أيضا من العراق كداعم فني للمعرض.
وأضاف “يستطيع العزاوي أن يرسم كل شيء: القريب، والبعيد، وكل شيء بينهما. محطات المترو، أو الأشخاص الواقفين في الحانات أو الغابات المحلية، أو صور فان غوخ الذاتية الجديدة. لا يبدو أن أي شيء ثابت أو مطلي، فالخطوط في حالة دائمة من التحلل، وكأن الرسام، بسبب إحجامه عن الاستمرار في العمل، أوصى لوحاته بأن تستمر ببساطة في رسم نفسها. إن هذا الضبط التصويري الماهر هو الذي يضع صور العزاوي المكثفة في حالة متلألئة من التعليق ويسمح للطبقات المختلفة من الطلاء المطبقة باستمرار بالتصادم ببساطة وإحداث التأثير المطلوب. يجد المشاهد نفسه في منتصف عملية الرسم أمام موقع بناء لوحة رائعة، ويُسمح له بالعمل مؤقتًا وإضافة كل ما هو غائب في ذهنه.”
ورأى ياكوب أن سعدون، المقيم في السويد، يعمل على دقة مختلفة ومعقدة للصورة وتطبيق الألوان والخطوط. وقال “في أعماله المتعددة الوسائط، تلتقي الأشكال ذات المظهر النحتي والرؤوس ذات المظهر القديم والصور التوضيحية التي تذكرنا بالسيارات مع بقايا الزخارف والخطوط وبقايا الأرقام والكتابة. كل شيء متشابك من خلال الطلاء الزائد والتعتيم المستمر. تُذكرنا صور سعدون بسبورة مدرسية غير نظيفة بشكل كافٍ، حيث تظهر عليها ملاحظات الدروس السابقة مع كل استخدام جديد للطباشير. ومن خلال هذا الكم الهائل من المعلومات والتقليص المتزامن لأساسيات الخط المرسوم، تظهر الأوراق وكأنها رسوم قديمة أو دليل تعليمات يصعب فك شفرته بالنسبة للعالم أجمع.
وأكد “نحن نتطلع إلى هذا اللقاء بين المتزامن وغير المتزامن، بين ما لم يحدث بعد وما لم يعد يحدث، بين الشرق والغرب، وكل شيء آخر ممكن.”
من صفات الوجود
في حديثه عن تجربة المعرضين المشتركين بينه وبين الفنان يونس العزاوي، قال كريم سعدون إنها تجربة مثيرة وممتعة وتقدم درسا في كيفية مشاركة الآخر الجهد في إخراج العرض التشكيلي الشخصي من إطار الفردية إلى مشاركة بين فنانين يتآلفان وينسجمان في رؤيتهما للعمل الفني كمنجز إبداعي له حساسية خاصة قد تتقاطع مع بعضها إذا لم تنسجم التصورات الروحية والحسية إزاءه، “وشخصيا أرى العزاوي فنانا كبيرا يعرف ما الذي يريده من فنه وماذا يرسم وكيف يرسم ومتى يرسم، فهو يحمّل تفاصيل عمله الرئيسية قوة تجذب عين المتلقي وتدخله إلى عالم آخر معقد بعد ظنه أنه يرى عالما شاهده من قبل، الأشكال المرسومة رغم انتمائها إلى الواقع الحقيقي بفعل وجودها الأولي إلا أنها خلقت لها وجودا حقيقيا كاشفا عن معنى الوجود، العيون تشارك في رسم الحقيقة تلك، فهي تبحث عن معنى ذلك الوجود.”
وأكد سعدون أن رسوم العزاوي تتطلب التقرب منها لأن المتلقي لها لا يراها فقط، ولكنه يتلمسها بدواخله من خلال خيوط التواصل اللحظية معها، فيغرق في زمن آخر يتشكل فيه عالم حافل بالاستقلال والحرية والسلام الروحي، ورغم التشيؤ الذي يكتسبه عمله الفني إلا أنه خلق له مبررات وجوده الحقيقي الجديد والمعبر، “شخصيا سعيد وأنا أرى أعمالنا معلقة وفق تراتبية منسجمة لا تدع للمتلقي فرصة الالتقاء بحدود فاصلة بينها، هناك خيط رابط دقيق وروحاني يربط دلالاتها ويؤشر إلى اشتغال غير تقليدي للجسد فيها قد يظن المرء كونها تمارين في اكتشاف غرابة الحياة، ولكن العمق فيها يدعوه إلى تضمينها بعدها الوجودي الجديد.”
رسوم العزاوي تتطلب التقرب منها لأن المتلقي لها لا يراها فقط، ولكنه يتلمسها بدواخله عبر التواصل اللحظي معها
وأضاف “الحياة حرية تزدهر بالسلام والدهشة المتواصلة من الاكتشاف ولذته. والسعادة بهذين المعرضين هي أنهما شكلا تجربة غنية. فبالنسبة إليّ أعتقد أن العرض مع فنان له تجربته المميزة وعلاقاته الواسعة مع فنانين معاصرين في برلين أمر مهم. وعندما يكون لديك فهم له، يقربك من كون العلاقة الفنية تدعمها الروحانية والبحث في وجود مهمش ومُعرَض دوماً للتهشيم وتلك مشتركات بيننا، حيث تقرِّبنا المسافة وتدعم انسجاماً خفيا لأعمالنا في تجاورها على الجدران. إن واحدة من الميزات التي ترتبط بها أعمالنا هي في عدم الاكتمال الذي طبعها لأننا عرفنا كيف نبدأ عملية الرسم، ولكن لم نحدد أين تنتهي فتبدو الأعمال غير مكتملة وهذا هو بعض من صفات الوجود.”
ورأى سعدون أنه “في تجربة إقامة معرضين في قاعتين مختلفتين في الموقع والإدارة، ولكل منهما جمهوره الخاص، أكسبنا تفاعلا جميلا من زوار المعرضين واهتماما بالمشاهدة ونوعيتها، ومما زاد الاهتمام أن المعرضين لفنانين من أصول عراقية أولاً، أحدهما مقيم في برلين بألمانيا والآخر مقيم في جوتينبورج في السويد، وكلا البلدين يمتلكان تجربتين فنيتين مختلفتين لذلك أثيرت الكثير من التساؤلات والبحث عن الأثر الموجود لأصلهما المشترك في أعمالهما، وكذلك المدى الذي توصلا إليه في المكان الجديد وأثره على تجربتهما.”
ميزة عدم الاكتمال
قال يونس العزاوي، “لقد نمت طويلاً وها أنا ذا أستيقظ”، مضيفا، “هذه المقولة أتذكرها دائما، وعندما شاهدت أعمال كريم سعدون أحسست أنني أستيقظ من نوم عميق حتى أُدقق بتفاصيلها وما فيها من دقة التعبير والحسية الموجودة من خلال مرونة وانسيابية خطوطه وفي تكوين أعماله.
إن شخوص سعدون مستلة من واقعنا، ولكنها حلمية وكأنها تريد منا أن نرى مستقبل الفن الحديث وحداثة العمل والتكوين في لوحاته. سعدون شخص حلمي وواقعي بشكل غريب ونفساني، فأعماله تنقلني إلى عالم غريب، عالم حسي غير مسبوق أبداً في عالم الفن، وقد يتوهم المتلقي أول مرة من تشابه أو تكرار ولكن سعدون فنان متفرد ينسج عالمه الخاص، فهو إنساني شبحي وكافكوي، وشخصياً أحب أعماله فهي مليئة بفلسفة إنسانية عميقة وتوغل كبير في تاريخ الفن والإنسانية.”
وتابع “يمكن لأي متلق يمتلك حساسية إزاء الفن أن يجد دراسة الخط عند سعدون مثلاً والتعابير في وجوه شخوصه كأنما تشير إلى أجساد آتية من عالم آخر غير عالمنا أو الكابوسية الواضحة في أعماله وهذه أعتبرها متأتية من قوة التعبير وقوة الفكر لديه وبغض النظر عن التقنيات المستخدمة في الإظهار فإنها عملية فلسفية وروحية.”
وعلق العزاوي على اختيار اسم المعرض لافتا أنه كان صعبا وليس سهلاً استخدام تسمية “حقول القوة” لأن في الاسم دلالات متغيرة وواسعة وتحتمل الكثير من الانفتاح، إذ أن الأعمال المختارة للعرض لم تكن ضمن المعايير التقليدية للوحة فهي كانت لوحات مضادة، ليست في بنائها أو في لغة التعبير التي تختزن فكرا فلسفياً وتهتم بالإنسان والوجود، فهي أيضا عملية روحية تبدأ أساسا من دراسة الخط المنساب فيها إلى قوة الفكر الذي تنطوي عليه، فالخط الذي يتبعه التلوين ليس عملية دراسية آلية فقط تخضع لمعايير أكاديمية في البداية والنهاية، ما يجمع الأعمال في انسجامها هو الاشتراك في ميزة عدم الاكتمال، فالفنان لم يكن يعرف متى ينتهي العمل لأن اشتغالاته فيه تنبع من حقول قوة مختلفة، مثل قوة البناء في الخط واللون والحرية في التوزيع وقوة التعبير والفكر فيها. يقول، “أعتقد أنني إذا سُئلت مرة أخرى عن منابع القوة فسيكون جوابي مختلفا لسعة ما يحمله من دلالات.”
واتفق الفنان سعدون مع زميله العزاوي فيما تطرق إليه، مضيفا “أن إيقاع الاسم يشير أيضا إلى معايير مختلفة في تلقي الأعمال المعروضة بدءًا من كونها تنتمي إلى تجربتين فنيتين مختلفتين في البيئة التي تحتضنهما رغم أن أصولها الأكاديمية والبيئية الأولى واحدة، حيث يثير ذلك الكثير من التساؤلات الجادة في البحث عن المشتركات والتأثيرات المختلفة التي أدت إلى اختيار أساليب تقنية تشير إلى مدى التجريب عند كليهما، وهو ما يعزز القوة، وكذلك، تنبع القوة من الاختزال الشديد في بنية العمل الفني، ومن تخلصه من الكثير مما يُعتقد أنه يشتت متعة التلقي، لتكتمل عملية التفاعل العميق معه”.