صعود اليمين الشعبوي يعيد رسم الخارطة السياسية في بريطانيا

وكالة أنباء حضرموت

في تطور سياسي لافت فتح فوز حزب “إصلاح المملكة المتحدة” اليميني الشعبوي بمقعد برلماني على حساب حزب العمال الحاكم الباب أمام مرحلة جديدة من التغيرات العميقة في المشهد السياسي البريطاني، مؤذنا بمرحلة ما بعد الثنائية الحزبية التي حكمت البلاد لعقود.

وانتزع حزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج أول مقعد برلماني له من حزب العمال في الانتخابات الفرعية التي جرت في دائرة رنكورن وهيلسبي الخميس، بفارق ستة أصوات فقط، في ضربة رمزية لكنها شديدة الدلالة على حالة التآكل التي تصيب الحزبين الرئيسيين في بريطانيا: حزب العمال وحزب المحافظين.

واستطاع حزب الإصلاح، الذي تأسس على أنقاض خطاب يميني مناهض للهجرة ومؤيد لبريكست، ببطء ولكن بثبات، التحول من قوة هامشية إلى لاعب مركزي يُعيد توزيع أوراق السياسة البريطانية.

وترافق هذا الفوز، الذي وصفه فاراج بأنه “لحظة فارقة”، مع مكاسب أخرى في المجالس المحلية، بما فيها رئاسة بلدية لينكولنشير الكبرى، ليؤكد أن الحزب لم يعد مجرد صوت احتجاجي، بل بات يمثل بديلاً فعليًا لشريحة واسعة من الناخبين الغاضبين من أداء النخبة السياسية.

الانتخابات المقبلة ستكون على الأرجح الأولى من نوعها التي تشهد منافسة جدية بين خمسة أحزاب أو أكثر

وأصبحت هيمنة حزبَي العمال والمحافظين على السياسة البريطانية منذ أوائل القرن العشرين مهددة. فنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، التي شملت التنافس على أكثر من 1600 مقعد في المجالس، أظهرت أن الناخب البريطاني لم يعد محصورا في الاختيار بين يسار الوسط ويمين الوسط، بل بات منفتحًا على خيارات أخرى، من اليمين الشعبوي إلى اليسار الأخضر والوسط الليبرالي.

ويقول الخبير السياسي جون كورتيس إن بريطانيا “تشهد بداية نهاية نظام الحزبين،” مشيرًا إلى أن “الانتخابات المقبلة ستكون على الأرجح الأولى من نوعها التي تشهد منافسة جدية بين خمسة أحزاب أو أكثر.”

ويعكس فوز حزب الإصلاح، رغم محدوديته العددية حتى الآن، أزمة تمثيل عميقة. ففي دائرة رنكورن، التي فاز بها، كان حزب العمال قد حصل في العام الماضي على 53 في المئة من الأصوات مقابل 18 في المئة فقط لحزب الإصلاح.

وترى الدكتورة صوفي هيل، أستاذة السياسات العامة في كلية لندن للاقتصاد، أن هذا التحول يعكس تغيرًا هيكليًا في المزاج العام.

وقالت “الشعبوية اليمينية في بريطانيا تتغذى على شعور واسع بالإقصاء من النظام السياسي. حزب الإصلاح يستثمر هذا الشعور بمهارة، مستفيدًا من ضعف الأحزاب الكبرى التي أصبحت غير قادرة على تقديم أجوبة ملموسة لمشاكل مثل غلاء المعيشة وانهيار الخدمات العامة.”

ويقول مراقبون إن التغير الجذري في التوجهات يُبرز التحول الكبير في مزاج الناخبين، الذين باتوا يرون في الأحزاب الكبرى جزءًا من المشكلة لا من الحل.

التغير الجذري في التوجهات يُبرز التحول الكبير في مزاج الناخبين، الذين باتوا يرون في الأحزاب الكبرى جزءًا من المشكلة لا من الحل

ويضيف البروفيسور تيم بايل، المتخصص في شؤون الأحزاب السياسية بجامعة كوين ماري في لندن، “فوز حزب الإصلاح ليس مجرد حادث عابر. إنه جزء من نمط أوسع نراه في أوروبا. الأحزاب التقليدية لم تعد قادرة على السيطرة على السرد السياسي، بينما يجيد الشعبويون اللعب على وتر الغضب والخوف، ما يعيد تشكيل السياسات الوطنية على أسس جديدة.”

وتغذي الشعبوية الصاعدة ملفات مثل الهجرة وغلاء المعيشة وضعف الخدمات العامة وتآكل الثقة بالسياسيين.

ومع تبنّي حزب العمال لسياسات اقتصادية أكثر تحفظًا، وتقوقع المحافظين في أزمة قيادة، يجد حزب الإصلاح لنفسه مساحة للتمدد سياسيا في الوسط الغاضب من الطرفين.

وتقول آن مكنزي، محللة الشؤون السياسية في تشاتهام هاوس، “تحول الناخب البريطاني من الانتماء الحزبي إلى التصويت على أساس قضايا آنية يعكس أزمة أعمق: أزمة تمثيل. حزب الإصلاح يملأ فراغًا خلّفته نخب سياسية عاجزة عن الإصغاء إلى هموم المواطن العادي.”

ويدخل المشهد السياسي البريطاني حقبة جديدة من التعددية، حيث لا تضمن الأغلبية لأي حزب، وتتغير التحالفات تبعا للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا استمر صعود الشعبويين فقد تجد بريطانيا نفسها في حالة شبيهة بنماذج أوروبية أخرى شهدت تفكك النظام الحزبي التقليدي.

وقد لا يحكم حزب الإصلاح قريبا، لكنه بات يؤثر في اتجاهات الحكم، ويجبر الأحزاب الكبرى على إعادة التفكير في برامجها وخطابها. وفي بلد اعتاد على الاستقرار الحزبي، يبدو أن الاضطراب أصبح هو القاعدة الجديدة.

فوز حزب "إصلاح المملكة المتحدة" بمقعد برلماني من حزب العمال يعكس تغيرا هيكليا في المزاج العام

ويأتي صعود حزب “إصلاح المملكة المتحدة” ضمن موجة أوسع من صعود الأحزاب الشعبوية في أوروبا الغربية، حيث نجحت هذه القوى في استثمار الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية، والهواجس المرتبطة بالهجرة، وفقدان الثقة بالمؤسسات التقليدية.

وفي بريطانيا تراكمت عوامل عدة منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، كان أبرزها انهيار الثقة بالطبقة السياسية وعودة الخطاب القومي إلى الواجهة.

ونايجل فاراج، زعيم الحزب، ليس وجهًا جديدا في المشهد السياسي؛ فقد لعب دورًا مركزيا في الدفع باتجاه البريكست عبر قيادته السابقة لحزب “استقلال المملكة المتحدة” وهو يستثمر اليوم في إرث تلك المعركة لتقديم حزبه الجديد كبديل حقيقي عن أحزاب يعتبرها كثيرون مرتهنة بمصالح النخبة.

وفي الوقت ذاته تشير دراسات انتخابية حديثة إلى حدوث تغيرات عميقة في سلوك الناخب البريطاني، إذ بات التصويت قائمًا على قضايا محددة لا على الولاءات الحزبية التقليدية، ما يُضعف فكرة المعاقل السياسية ويجعل من كل دائرة انتخابية ساحة مفتوحة للتنافس. كما أن هشاشة النمو الاقتصادي وتصاعد الضغوط على الخدمات العامة، مثل الصحة والإسكان، زادا من قابلية الناخبين لتبني خيارات خارج الصندوق، خصوصا في الأقاليم الصناعية والشمالية التي تشعر بالتهميش.

ويعتبر النظام السياسي البريطاني تاريخيا من أكثر الأنظمة استقرارا في أوروبا الغربية، قائمًا على الثنائية الحزبية بين العمال والمحافظين منذ بدايات القرن العشرين. إلا أن هذا النظام بدأ يتعرض لتحديات متراكمة منذ أوائل الألفية الثالثة، أهمها: ضعف المشاركة السياسية وتصاعد السخط على “نخب وستمنستر” وتراجع الثقة بالمؤسسات المنتخبة. وخلق هذا السياق فراغا سياسيا ملأته لاحقا قوى هامشية كـ”استقلال المملكة المتحدة” سابقا وحزب الإصلاح حاليًا.

ولا يحدث صعود حزب الإصلاح بمعزل عن أوروبا. فمن فرنسا إلى هولندا وإيطاليا، تشهد الديمقراطيات الغربية موجة تصاعد لليمين الشعبوي، نتيجة تشابه الأسباب: المخاوف من العولمة، الهجرة، الشعور بالإقصاء من مراكز القرار، وتآكل شبكات الحماية الاجتماعية، إذ يمثل حزب فاراج جزءا من هذا الاتجاه الأوسع الذي يعيد صياغة السياسة الأوروبية.

ورغم مرور نحو عقد على استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا يزال إرث بريكست حاضرًا بقوة؛ فقد مثّل لحظة كسر كبرى للنظام السياسي، ليس فقط نتيجة الانقسام المجتمعي الذي خلقه، بل لأنه شرعن الخطاب الشعبوي وجعل من التشكيك في المؤسسات السياسية أمرا شائعا ومقبولا شعبيا.