دموع الندم في الجنائز.. شهادة تقصير في حق الأحياء
أسعد أبو الخطاب
في كل جنازة نشهد المشهد ذاته: عيون تفيض بالدموع، ووجوه يكسوها الحزن، لكن خلف تلك الدموع تختبئ حقيقة...
في كل جنازة نشهد المشهد ذاته: عيون تفيض بالدموع، ووجوه يكسوها الحزن، لكن خلف تلك الدموع تختبئ حقيقة لا يجرؤ كثيرون على البوح بها... ليست كل الدموع دموع فقدٍ صادق، بل هي في الغالب دموع ندمٍ متأخر، واعتراف صامت بتقصير فادح ارتكب في حق من رحل.
الموت يكشف المستور:
المفارقة المؤلمة أن الإنسان قد يعيش سنوات بين أهله وأصدقائه، وهو يئن تحت وطأة الحاجة أو المرض أو الوحدة، فلا يجد من يقف بجانبه أو يخفف عنه... غير أن ساعة الرحيل يخرج الجميع من سباتهم، فيهرعون للحضور، ويقطعون المسافات الطوال للمشاركة في مراسم العزاء.
وهنا يتجلى السؤال: أين كانوا حين كان حيًّا بحاجة إلى تلك الوقفة؟
شواهد من الواقع:
المرضى المنسيون: عشرات الحالات في المستشفيات تموت بصمت، بينما أقاربهم وأصدقاؤهم يكتفون بكلمات المواساة بعد وفاتهم.
الفقراء المهمشون: أسر تقضي أعوامًا في معاناة العوز، دون التفاتة جادة، لكنهم يصبحون محور الاهتمام لحظة الموت، حيث تغدق عليهم المساعدات لدفن فقيدهم.
المغتربون المنعزلون: يعيشون غرباء في أوطان الآخرين، فلا يتذكرهم أحد إلا حين يصل خبر وفاتهم، فيجتمع الناس لاستقبال جثمان لم يجد بينهم دفء الحياة.
البعد النفسي والاجتماعي:
دراسات اجتماعية عديدة، منها دراسة بريطانية عام 2019م، كشفت أن 60% من المشاركين اعترفوا بندمهم العميق بعد وفاة شخصٍ قريب، لأنهم لم يقضوا معه وقتًا كافيًا أو لم يقدموا له الدعم المطلوب... هذه النتائج تؤكد أن ظاهرة "الندم بعد الموت" واقع ملموس، وليست مجرد انطباع عابر.
العبرة التي لا بد منها:
إن دموع الندم في الجنائز ليست وسامًا على صدورنا، بل شهادة إدانة على تقصيرنا في حق الأحياء.
فما نفع الحشود حول القبور إذا كان صاحبها قد عاش وحيدًا مهمشًا؟
وما قيمة الكلمات المؤثرة بعد الفقد، إذا بخلنا بكلمة دعمٍ أو حب حين كان في أمس الحاجة إليها؟
دعوة للتغيير:
الحياة قصيرة، ولا تحتمل تأجيل العطاء... فلنمنح الحب ونحن قادرون، ولنمد يد العون قبل أن يغلق القبر، ولنتذكر أن الإنسان بحاجة إلينا حيًّا أكثر بكثير مما يحتاجنا ميتًا.
فالجنازات ليست مسرحًا للتكفير عن الذنوب، بل مرآة تُظهر قسوة المجتمع وتقصيره... والدموع التي تنهمر عند الفقد، إن لم تتحول إلى سلوك مختلف مع الأحياء، فستظل مجرد شهادة تقصير موثقة على جبين كل باك متأخر.