حكيم المال يودّع زمن الأرقام.. وارن بافيت يسلم مفاتيح ثروته إلى الجيل الجديد

وكالة أنباء حضرموت

فاجأ الملياردير الأمريكي الشهير وارن بافيت الأوساط الاقتصادية حين أعلن أنه يغير خطته في توزيع ثروته الضخمة، البالغة نحو 150 مليار دولار، معترفا بأن الزمن لم يعد في صفه، وأن "فترة شهر العسل" بينه وبين الحياة الخيرية "لن تدوم إلى الأبد".

الرسالة التي بعثها "حكيم أوماها" – كما يلقب بافيت – إلى مساهمي شركته العملاقة بيركشاير هاثاواي، لم تكن مجرد وثيقة مالية سنوية، بل أقرب إلى وصية إنسانية وفكرية صاغها رجل في الخامسة والتسعين من عمره، يُدرك أن الوقت حان لتسليم إرثه المالي والفكري إلى الجيل التالي.

قال بافيت في رسالته: "لن تدوم فترة شهر العسل إلى الأبد". بهذه العبارة المكثفة لخّص الملياردير الأمريكي نظرته الجديدة إلى مسيرته الطويلة في العمل الخيري. فبعد عقودٍ من التبرعات المليارية الموجهة إلى مؤسسات ضخمة مثل مؤسسة بيل وميليندا غيتس، قرّر هذه المرة تفويض أبنائه الثلاثة لإدارة إرثه الخيري بأنفسهم.

وبحسب تقرير نشرته مجلة "فورتشن" الأمريكية، فإن بافيت سيحوّل الجزء الأكبر من ثروته إلى ثلاث مؤسسات خيرية يديرها أبناؤه، ليتم توزيع نحو 500 مليون دولار سنويًا وفق أولويات يحددونها بأنفسهم.

وتشير تفاصيل الخطة الجديدة إلى أن كل من أبنائه – سوزي، هوارد، وبيتر – سيشرف على مؤسسة مستقلة تركز على قضايا مختلفة مثل التعليم، والأمن الغذائي، ومكافحة الاتجار بالبشر، ودعم المجتمعات المهمّشة.

هذه الخطوة تمثل مراجعة شاملة لمسارٍ طويل من العمل الخيري المركزي الذي طالما اعتمد عليه بافيت، إذ كتب صراحة: "شاهدتُ عبر السنين عمليات نقلٍ غير مدروسة للثروات، سواء بسبب تدخل سياسي أو عائلي أو حتى بسبب إحسانٍ غير كفؤ أو غريب الأطوار."

ثروت وارن بافيت
يعد وارن بافيت واحدًا من أثرى رجال العالم بثروة تقدرها "بلومبرغ" بنحو 150 مليار دولار، لكن اللافت في رسالته أنه أكثر اهتمامًا بما سيتركه من أثر إنساني لا من أرقام مالية. فقد أقرّ بأن "بعض الخطط الخيرية السابقة لم تسر كما كان يتصور"، وأن "الحظ، وليس العبقرية وحدها، لعب دورًا كبيرًا في رسم مسار حياته".

وبأسلوبه المعتاد الذي يجمع بين التواضع والسخرية الذاتية، كتب: "ولدت عام 1930، أبيض البشرة، ذكرًا، في أمريكا.. يا لها من صفقة رائعة مع سيدة الحظ!"، مضيفًا: "الحظ منحني أكثر مما أستحق، لكن له حدود، والزمن لا يُهزم".

لغة بافيت في الخطاب تعكس انتقالهمن مرحلة إدارة المال إلى مرحلة التفكر في المعنى، في لحظة يوازن فيها بين ثقل الأرقام وخفة الروح.

تعهد العطاء
أثار قرار بافيت الجديد تساؤلات حول مستقبل مبادرة "تعهد العطاء" (The Giving Pledge) التي أطلقها عام 2010 مع بيل وميليندا غيتس، ودعت أثرياء العالم إلى التبرع بما لا يقل عن نصف ثرواتهم خلال حياتهم أو بعد وفاتهم.

ورغم أن بافيت نفسه تعهد بالتبرع بأكثر من 99% من ثروته، إلا أن دراسات حديثة – بينها تقرير لمعهد دراسات السياسات الأمريكي – تشير إلى أن القليل فقط من الموقّعين التزموا فعليًا بتلك النسبة، بينما ازدادت ثروات معظمهم بوتيرة تفوق حجم تبرعاتهم.

تجاوزت تبرعات بافيت 60 مليار دولار، معظمها وجه إلى مؤسسة غيتس، غير أن السنوات الأخيرة شهدت فتورًا في العلاقة بين الرجلين، خصوصًا بعد طلاق بيل وميليندا عام 2021 واستقالة بافيت من مجلس إدارة المؤسسة.

وتشير تقارير أمريكية إلى أن بافيت بات قلقًا من البيروقراطية التي بدأت تتسلل إلى المؤسسة العملاقة، ما جعله يفضل العودة إلى نموذج العطاء المحلي والعائلي الذي "يحمل روح المبادرة والمرونة"، كما قال.

الحكمة في وجه الزمن
لم يكن إعلان بافيت مجرد خطة مالية جديدة، بل تأملًا في الشيخوخة والخلود والمعنى، ففي رسالته الطويلة التي اتسمت بنبرة حنين وصدق نادرين في لغة المال، تحدّث عن نشأته في مدينة أوماها بولاية نبراسكا، وعن معلمه وصديقه الراحل تشارلي مونجر، وعن جيرانه القدامى الذين أصبح بعضهم رؤساء شركات كبرى مثل كوكاكولا.

واستعاد ذكريات طفولته في ثلاثينيات القرن الماضي حين كاد يفقد حياته بسبب التهاب الزائدة الدودية، وحين كان يحلم بأن يصبح محققًا في مكتب التحقيقات الفيدرالي. ثم ختم تلك الذكريات باعتراف إنساني لافت: "لقد أنقذتني الصدفة ثلاث مرات في حياتي، الحظ ظالم ومتقلب، لكنه منحني وقتًا كافيًا لأتعلم كيف أكون أفضل."

المال لا يساوي المعنى
قدم بافيت عبر رسالته الأخيرة درسًا للأثرياء في زمنٍ تزايدت فيه الفجوة بين الثروة والضمير، قائلاً: "لا تتحقق العظمة بجمع المال أو النفوذ، بل حين تساعد إنسانًا واحدًا بأي طريقة كانت. اللطف لا يُكلّف، لكنه لا يُقدّر بثمن".

واختتم بافيت رسالته بعبارة :"حدد ما تريد أن يُقال في نعيك، وامضِ لتعيش الحياة التي تستحقها."