مصر وصندوق النقد.. فصل جديد من التفاوض يرسم ملامح المستقبل الاقتصادي
بدأت مصر جولة جديدة من التفاوض مع صندوق النقد الدولي في واشنطن، وسط أجواء اقتصادية دقيقة وآمال معلقة على إنجاز مراجعتين مدمجتين لبرنامج "تسهيل الصندوق الممدد" البالغة قيمته 8 مليارات دولار>
الخطوة يُنتظر أن تحدد ملامح العلاقة المستقبلية بين الجانبين بعد 47 عاما على أول اتفاق تمويلي فعلي بين مصر والصندوق في سبعينيات القرن الماضي.
منذ أن وضعت مصر توقيعها على اتفاقية "بريتون وودز" عام 1945 لتصبح من الأعضاء المؤسسين لصندوق النقد الدولي، نشأت علاقة طويلة ومعقدة بين القاهرة والمؤسسة المالية الأهم في العالم.
علاقة اتسمت في معظم مراحلها بالتفاهم الحذر، والتقارب حينا، والشد والجذب أحيانا أخرى، لكنها ظلت رغم المنعطفات المتكررة قائمة على مبدأ "القبول المشروط": قرض مقابل إصلاح، ودعم مقابل التزام.
وبحسب مصادر حكومية مطلعة تحدثت لـ"العين الإخبارية"، توجه وفد مصري رفيع المستوى إلى واشنطن الأسبوع المقبل للمشاركة في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، المقررة بين 13 و18 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، لمناقشة الملفات العالقة في المراجعتين الخامسة والسادسة من البرنامج المالي الموقع في نهاية عام 2022.
وتشير المصادر إلى أن ملف الطروحات الحكومية وزيادة مشاركة القطاع الخاص سيتصدران جدول المفاوضات، باعتبارهما المعيار الأهم لقياس مدى التزام القاهرة بمسار الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه.
فالصندوق – كما تقول المصادر – لا يكتفي بتحقيق مؤشرات مالية إيجابية أو استقرار مؤقت في سعر الصرف، بل يسعى إلى التأكد من أن الإصلاحات الاقتصادية تمضي في مسار مستدام لا رجعة فيه.
ورغم تمسك الصندوق بجوهر الإصلاح، أبدت مديرته العامة كريستالينا غورغييفا مرونة في بعض الجوانب الزمنية، إذ صرحت مؤخرا بأن الصندوق "منفتح على تأجيل جهود الحكومة المصرية في ملف الطروحات إلى عام 2026"، مؤكدة أن "ما يهم هو المسار وليس السرعة".
في خلفية هذه المفاوضات، يبرز ملف الطروحات الحكومية كأحد أكثر النقاط تعقيدا في علاقة مصر بالصندوق خلال السنوات الأخيرة.
فبينما ترى الحكومة أن التأجيلات كانت ضرورية لتفادي بيع الأصول بأقل من قيمتها في ظل اضطرابات الأسواق العالمية، يعتبر الصندوق أن بطء تنفيذ الطروحات يضعف ثقة المستثمرين ويعطل تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي تمثل ركيزة أساسية للإصلاح الاقتصادي.
وكشفت مصادر حكومية أن القاهرة تستعد لإطلاق مرحلة جديدة من برنامج الطروحات خلال الأيام المقبلة، تبدأ بطرح شركة تابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية في البورصة، مع الإعلان عن حوافز جديدة لجذب المستثمرين وتشجيع الإدراجات.
وتأتي هذه التحركات في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى ضخ سيولة دولارية وتخفيف أعباء الدين الخارجي، الذي تجاوز 165 مليار دولار وفق آخر الإحصاءات الرسمية.
وفي موازاة ذلك، حرص ممثل الصندوق المقيم في مصر، أليكس سيجورا أوبيرجو، على نفي ما يتداول بشأن مطالبة الصندوق القاهرة برفع أسعار الوقود.
وقال خلال ندوة نظمها "المركز المصري للدراسات الاقتصادية" إن الصندوق "لا يقدم توصيات محددة بزيادة الأسعار"، مشيرا إلى أن قرار الحكومة برفعها تدريجيا جاء استنادا إلى حسابات داخلية تتعلق بتكلفة الدعم على الموازنة العامة.
وأوضح أوبيرجو أن الوفورات الناتجة عن خفض الدعم ستُوجَّه إلى برامج الحماية الاجتماعية مثل "تكافل وكرامة"، مؤكدا أن هذه البرامج تحقق نتائج ملموسة في دعم الفئات الأكثر احتياجا.
كما شدد على ضرورة تقليل الاعتماد على تدفقات الاستثمار في أدوات الدين قصيرة الأجل، والتركيز بدلاً من ذلك على تحسين بيئة الأعمال لجذب الاستثمارات الإنتاجية طويلة الأمد.
بدأ أول اتفاق تمويلي فعلي بين مصر وصندوق النقد عام 1977 في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، عندما حصلت القاهرة على قرض بقيمة 185.7 مليون دولار.
وفي أوائل التسعينيات، عادت مصر مجددا إلى الصندوق ضمن برنامج إصلاح اقتصادي واسع امتد بين عامي 1991 و1996، حصلت خلاله على أكثر من مليار دولار لدعم الحساب الجاري وتنفيذ إصلاحات هيكلية شملت الخصخصة وتحرير التجارة.
ثم خفتت العلاقة إلى حد كبير حتى عام 2016، حين عادت القاهرة إلى الصندوق عبر اتفاق الـ12 مليار دولار، وهو البرنامج الذي ارتبط بقرار تعويم الجنيه وتحرير سعر الصرف ورفع الدعم التدريجي عن الطاقة.
وفي عام 2020، وفي خضم جائحة كورونا، حصلت مصر على 8 مليارات دولار جديدة لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية العالمية، أعقبها في ديسمبر/كانون الأول 2022 برنامج جديد بقيمة 3 مليارات دولار ضمن "تسهيل الصندوق الممدد"، ارتفع لاحقا إلى 8 مليارات بعد مراجعة شاملة في مارس/آذار 2024، إضافة إلى 1.2 مليار دولار من "صندوق الاستدامة"، ليصل إجمالي التمويل المتاح لمصر إلى نحو 9.2 مليار دولار.
وفي الاجتماعات الأخيرة بين وزير الاستثمار والتجارة الخارجية حسن الخطيب ووفد الصندوق برئاسة أوبيرجو، أشاد مسؤولو الصندوق بما وصفوه بـ"التقدم المحرز في الإصلاحات المالية والتجارية والهيكلية"، خصوصًا في مجالات التحول الرقمي وربط التجارة بالاستثمار.
وأكد الوزير خلال اللقاء أن الحكومة تتبنى رؤية إصلاحية واضحة تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص، مشيرًا إلى إطلاق منصة التراخيص الموحدة التي اختصرت الإجراءات البيروقراطية إلى 21 يوما فقط، إلى جانب منصة الكيانات الاقتصادية التي تسهّل تأسيس المشروعات الجديدة.
ومع ذلك، لا يزال الصندوق يطالب بـ"إصلاحات أعمق" تشمل توسيع قاعدة الملكية الخاصة في الاقتصاد، وضمان الشفافية في الموازنات العامة، وإعادة هيكلة الشركات الحكومية المثقلة بالديون.
ويرى الخبير الاقتصادي مصطفى بدرة أن التعاون مع الصندوق يمنح مصر "شهادة ثقة دولية" أمام المستثمرين الأجانب، لكنه في الوقت ذاته يقيّد هامش المناورة الاقتصادية للحكومة، موضحًا أن الصندوق لا يمنح تمويلاته مجانًا، بل يربطها بإصلاحات هيكلية تمس بنية الاقتصاد الكلي، مثل سياسات الدعم وسعر الصرف وضبط عجز الموازنة.
ويضيف بدرة لـ"العين الإخبارية" أن علاقة مصر بالصندوق طالما تأرجحت بين الحاجة إلى التمويل والرغبة في الحفاظ على السيادة الاقتصادية، ما يجعلها علاقة "حساسة لكنها ضرورية"، على حد تعبيره.
اليوم، ومع استعداد القاهرة لمراجعتين جديدتين ووسط أزمات دولية متلاحقة، من تباطؤ التجارة العالمية إلى اضطرابات أسواق الطاقة، يبدو أن العلاقة بين مصر وصندوق النقد تدخل فصلًا جديدًا من التفاوض، قد يحدد ملامح العقد القادم من التعاون.
ويبقى السؤال: هل تنجح القاهرة في إقناع الصندوق بمرونتها الإصلاحية دون الإضرار بالطبقات المتوسطة والفقيرة؟ أم أن جولة جديدة من "الإصلاحات المؤجلة" تلوح في الأفق؟