لوحات البهلول الشريف صور ذهنية من حديقة الذكريات
كأنني أبدأ بالحكي مما انتهى إليه محمد العارف عبية في تجاربه التلقائية ولا أتوقف عنده كثيرا بالحديث عن تجربة تتخذ مكانا مرموقا في مدينة الجمال، حيث الفن الخام والمستقى من ذاكرة غير مخدوشة بتنظير فن الرسم وقوانينه التقليدية، بالحديث عن تجربة الفنان الليبي البهلول الشريف.
الفنان الشريف لا يعود إلى المنبع الأول فحسب بل يتخذه المصدر لمنتجه الفني ولا يعرف سواه، يمتلك قدرة تعبيرية هائلة تتضح في تراكم الخطوط بألوان متعددة ومتباينة، أغلبها ألوان صريحة في نسق منسجم يظهر في كل أعماله، ما يضفي عليها ملامحه الشخصية الخاصة دون أي قرار مسبق، فهو لا يهمه أن يمتلك طريقه الخاص الذي يميزه عن غيره من الفنانين، بل يسعى أيضا إلى إكمال اللوحة كما تمليها عليه روحه المتقدة وسباقه الشخصي معها.
البهلول الشريف يعبر عما يعتمل في داخله بشكل مباشر، دون تكلف أو محاولة لإبهار المتلقي بتقنيات الرسم
البهلول الشريف يعبر عما يعتمل في داخله بشكل مباشر، دون تكلف أو محاولة لإبهار المتلقي بتقنيات الرسم
يعمل على رسم مشاهد من المدينة القديمة بطرابلس ومناظر البحر والقوارب والكروسة الطرابلسية في محيط الفن الشعبي بصورة لوحة الحامل، يستعين بذاكرة صافية لا يمكن التأثير عليها من أي نفوذ تشكيلي مجاور له، رغم كل هذه المدارس والاتجاهات الفنية التي تكونت منذ مئات السنين بشكل رسمي وأصبحت بملامحها الواضحة وروادها والكثير من رموزها وكانت سببا رئيسيا في صناعة ذائقة أغلب الفنانين التشكيليين الليبيين بدراستهم في أوروبا أو باطلاعهم ودراستهم للفنون وما تم إنتاجه في هذا المجال عبر الأعمال الفنية والقراءات والدراسات والكتب المتخصصة في الفنون التشكيلية منذ الفن الصخري إلى الفنون المعاصرة في الوقت الراهن.
كان للفنان حوار دائم مع أعماله فهي تأتي على مراحل من تداعيات بعد عملية البدء في الرسم والدخول على مساحة بيضاء تقابلها مساحات أخرى مكتظة بالصور والحكايات الذهنية، يبدع الفنان البهلول في تسريبها عبر ترجمتها إلى ألوانه الصريحة وأشكاله الفطرية البكر من بيوت ليبية وأزقة وطرق وعربات الكروسة وأعراس وألوان واحتفالات. يرسم خيولا وعمائر وقبابا ومآذن، رسم السرايا الحمراء في صياغة جديدة، وأقواسا وأبوابا وشبابيك موصدة. كل هذه المفردات جاءت مكتظة بالألوان والمشاعر البشرية الدافئة.
يعبر البهلول الشريف عما يعتمل في داخله من أفكار بشكل مباشرة، دون تكلف أو محاولة لإبهار المتلقي بتقنيات الرسم المعروفة من درجات وألوان وتجاور في الألوان وحسابات للخطوط والظلال ومهارة النقل ومحاكاة الواقع، بل هي عملية تبني رؤية الفن الفطري في صياغة العالم بشكل فريد دون الإلزام بكل تلك القوانين والحدود، فينتج عن هذا الفعل عالم آخر يتسم بالغرابة كعمل الفنان لرسم السرايا الحمراء بطرابلس في تصوره للمعمار وتكون أجزاء المشهد بملامح ألعاب التركيب من المكعبات الملونة، ما يحيلنا إلى عالم الطفولة الصافي في تعبيره وأشكاله.
ينهل الفنان من مصادر أخرى ليست تلك التي تم تحديدها في مدارس وأساليب بكل قوانينها وشروطها، بل هو فعل منفلت غير ملتزم بقواعد التشكيل الأولى. وهو في كل هذه الاتجاهات كان دائما يعتمد على دفع داخلي يجهل أسبابه الملحة في التعبير بألوانه الصريحة وأشكاله التي تقترب من التبسيط دون أي نماذج متقابلة في ذهنه، بل هو استرسال ولعب بهدف المتعة التي يحققها الفنان من عمله، تلك المتعة التي تتحقق للمتلقي من هذه الأعمال لغرابة أجوائها، فالفنان يرسم الأمكنة المعروفة بمدينة طرابلس ولكن يضيف إليها من روحه القلقة لتصبح فعلا دراميا مفعما.
إعادة تشكيل للأماكن
يطغى اللون وتنظيراته من ألوان صريحة إلى أخرى يعتريها الغموض مع الفاتح والغامق منها، ويمكن أن يصنع من الأحمر أحمر آخر ومن الأصفر أصفر متوهجا آخر ومن الأخضر أخضر أكثر إشراقا في سيمفونية مضبوطة الإيقاع في نتائجها وغير محسوبة على تيار أو مدرسة فنية، فهو يبتعد عن تأثيرات الحداثة واتجاهاتها المتعددة، لأنه ينطلق في تعبيره من ذاكرة غير مخدوشة بتنظيرات وأفكار جاهزة بل هي عملية شغف ورغبة في التعبير بالرسم لا يدرك دوافعها ولكنه يدرك كيف يستخدمها في إبداعاته.
ورغم أن الفنان الشريف متحصل على بكالوريوس علوم سياسية إلا أنه اعتمد على تكوينه الشخصي ومعاملته للحياة والمحيطين به كتلك التي ينتهجها في حياته الفنية والتي تبدأ من عملية الرسم الإبداعية لتصل إلى علاقاته بأصدقائه الفنانين وكل من يتعامل معه في هذا المجال بشكل عفوي، ما يظهر أصالة الجوهر عنده، فالفنان البهلول لا يتصنع الحذلقة ولا يرسم شخصية مخالفة لتكوينه الفطري الذي خلق عليه.
تأتي كل أعماله وسيلة للتعبير الصريح عن مشاعره تجاه الجمال الخالص، لا يتقن التزيين ولا يجيد فبركة مواضيعه في قوالب جاهزة، بل تأتي لوحاته ممتلئة برغباته المكبوتة والتي لم يستطع الكلام صياغتها فكانت مؤجلة في البوح عبر ألوانها الصريحة وتكويناتها التي لا تتكئ إلا على توازن داخلي تستمده من صوره الذهنية المتراكمة في حديقة الذكريات بكل أفراحها وأحزانها.
البهلول فرج الشريف من مواليد طرابلس عام 1961، حاصل على بكالوريوس علوم سياسية عام 1991 من جامعة طرابلس، وهو فنان عصامي شارك في العديد من المعارض المحلية والخارجية، آخرها معرض “تداخل” ببيت إسكندر للفنون – طرابلس عام 2022، ومعرض بعنوان “تفاعل” بقصر خيرالدين – تونس عام 2022 أيضا. أقام معرضه الشخصي الأول عام 2002 بقاعة السيدة مريم في العاصمة الليبية طرابلس. كما عمل رساما بالصحافة الليبية.