الحكومة المصرية تتجاوز الخط الأحمر بخصخصة الوقف الإسلامي
جلبت الحكومة المصرية غضبا مجتمعيا واسعا بعد قرارها تسليم الأوقاف الإسلامية إلى القطاع الخاص بحجة تعظيم الموارد والاستفادة المُثلى من أموال الوقف، ما أثار جدلا مجتمعيا بالتزامن مع مطالبة السلفيين بأن تشمل الخصخصة أوقاف الكنيسة من باب المعاملة بالمثل.
وطلب رئيس الحكومة مصطفى مدبولي خلال اجتماع عقده مع وزير الأوقاف أسامة الأزهري أخيرا، بإجراء حصر شامل لجميع أملاك هيئة الأوقاف، على أن يشمل مختلف الأراضي والمباني السكنية والتجارية وغيرها، تمهيدا لطرحها على القطاع الخاص من أجل الشراكة، بهدف تعزيز كفاءة الإدارة والتشغيل لمختلف هذه الفرص في أقرب وقت.
وقال مدبولي إن أيّ مشروع تنفذه الأوقاف بالشراكة مع القطاع الخاص سيحظى بالدعم الكامل من جانب الحكومة، في إطار تعزيز الشراكة وتحقيق الاستثمار الأمثل لأملاك الهيئة، وهي نبرة توحي بوجود توجه لخصخصة الوقف الإسلامي دون مراعاة أن هذا الملف قد يجلب منغصات سياسية كبيرة في توقيت بالغ الحساسية.
والوقف ملكية شخصية أو مجتمعية، وليس تابعا لأيّ مؤسسة حكومية، والأصل في الممتلكات والأموال الموقوفة أنها صدقة مستمرة تقوم هيئة متخصصة بإدارتها كي يستفيد منها المجتمع، ببناء مساجد أو مدارس أو مستشفيات ومساعدة الفقراء لتحسين ظروفهم، وليس لأيّ جهة حق التصرف في هذه الأوقاف بغير الهدف منها.
وقاد توجه الحكومة إلى إثارة غضب شريحة من المواطنين، وتلقفه سلفيون لتأليب الناس والإيحاء بأن الحكومة تسطو على الأوقاف وتسلمها إلى مستثمرين بالمخالفة للشرع والقانون، وهو ما لم ترد عليه أيّ جهة رسمية وتركت السلفيين ينشرون اتهاماتهم.
وتعتقد دوائر سياسية أن تعامل الحكومة مع خصخصة الوقف الإسلامي أوحى للكثيرين بأنها تفتقد الحد الأدنى من الحنكة السياسية، لأنها لم تُدرك تبعات الخطوة على المستويين الشعبي والديني، عندما تتحرك بعشوائية في ملف حساس مرتبط بالهوية الدينية لدى أغلبية سكانية تتعامل مع الأوقاف ككيان مقدس لا يجوز الاقتراب منه.
وتُشرف وزارة الأوقاف في مصر على وقف إسلامي تتجاوز قيمته تريليون جنيه (الدولار= 50 جنيها)، وصافي دخلها السنوي من استثمار الوقف يصل إلى نحو ملياري جنيه، لكنها تواجه غضبا برلمانيا وتحفظا رئاسيا بسبب ضعف عوائد الوقف.
وجزء من التحفظ على إدارة وزارة الأوقاف للمؤسسات والممتلكات الموقوفة أنها تنفق ببذخ على بناء المساجد وسط ظروف اقتصادية صعبة في البلاد، بينما لا يتم تعيين أئمة وخطباء، ما بدا أنها تتعامل مع ملف بناء المساجد كإنجاز عمراني في حين تحتاج الدولة إلى هذه الأموال لأغراض تنموية، وأخرى اجتماعية قد تخفف تململ البسطاء من غلاء المعيشة.
ولم يسلم التحرك نحو إشراك القطاع الخاص في إدارة الأوقاف من توظيف السلفيين ومناهضين للحكومة ورقة الأقباط، للإيحاء بأنها تخشى الاقتراب منهم وتضعهم في مكانة استثنائية، لأنها لم تفعل نفس الخطوة مع أوقاف الكنيسة، واستمرت في منحها وحدها (الكنيسة) سلطة التصرف والإدارة واستثمار الأصول، بينما تريد الحكومة السيطرة على الأوقاف الإسلامية.
وحاول معارضون توظيف ورقة الوقف القبطي لتحويل الملف إلى فتنة طائفية تنفخ فيها الحكومة بشكل غير مباشر، وبلغ الأمر حد الإيحاء بأنها تخشى الاقتراب من أوقاف الكنيسة خوفا من حدوث غضب أوروبي، وهي طريقة سعى من خلالها خصوم الحكومة للإشارة إلى ضعفها في مواجهة سلطة الكنيسة، مقابل سهولة ما اعتبروه استيلاء على الوقف الإسلامي.
وتجاهل المعارضون، وغالبيتهم من السلفيين، أن الكثير من الأوقاف المسيحية في مصر لا يمكن للحكومة الاقتراب منها، لأنها مملوكة للكنيسة الكاثوليكية والطائفة الإنجيلية، والباقي للأقباط الأرثوذكس، ما يدحض الادعاءات التي تقول إن هناك تمييزا بين المؤسسات الوقفية الإسلامية والمسيحية.
وقال رئيس اللجنة الاقتصادية بحزب “الوعي” المصري كريم العمدة إن هناك أشخاصا أصبحوا أغنياء من سرقات الأوقاف، والحكومة لا تملك أدوات على الأرض تُمكنها من حماية أموال الوقف، ومن المهم عقد شراكات اقتصادية مع القطاع الخاص للإدارة والتشغيل بضوابط صارمة تمنع بيع هذه الأصول.
تعامل الحكومة مع خصخصة الوقف الإسلامي أوحى للكثيرين بأنها تفتقد الحد الأدنى من الحنكة السياسية، لأنها لم تُدرك تبعات الخطوة على المستويين الشعبي والديني
وأضاف لـ”العرب” أن مشكلة الحكومة في عدم تقديم مبررات مقنعة للرأي العام حول توجهاتها الاقتصادية، ومع أن لديها دوافع حقيقية في الاستعانة بالقطاع الخاص لإدارة الأوقاف، لكنها تترك الناس لعناصر تفتعل أزمة ولها خصومة سياسية مع الحكومة، وهذه أزمة ترتبط بضعف خطاب الكثير من المسؤولين الموجه للمواطنين.
ودعم مناصرون للحكومة خطوة الشراكة مع القطاع الخاص في إدارة الوقف الإسلامي للحد من السرقات وإهدار حق المجتمع في الحصول على عوائد مالية جيدة من تلك الكيانات الضخمة، بعد أن أخفقت هيئة الأوقاف في تنمية موارد هذه المؤسسات والحد من إهدار قيمتها بما جعل المجتمع لا يحقق استفادة منها.
ودخل هذا الفريق في معارك كلامية مع الشريحة المناهضة للحكومة، سلفيين وغيرهم، وسوّقوا إلى أن خصخصة الوقف الإسلامي لا تعني البيع بقدر ما تهدف الخطوة إلى تحويل إدارة الأوقاف من القطاع العام إلى الخاص لتحقيق الأهداف الخيرية، من خلال الاستفادة بالخبرات الإدارية التي يتعامل بها القطاع الخاص في جني الأرباح بطريقة مُحكمة.
واستعان الخطاب السلفي المناهض للحكومة في ملف خصخصة الأوقاف بموقف هيئة كبار العلماء ومجمّع البحوث الإسلامية في الأزهر، عندما رفضا قبل سبع سنوات مشروع قانون تعديلات هيئة الأوقاف لإنشاء صندوق الوقف الخيري وأقرا بأنه لا يجوز شرعا تغيير شرط الواقف أو التصرف في الوقف، لكن الحكومة لم تكترث برأي الأزهر آنذاك ومررت القانون.
واستهدف نظام الوقف الخيري الذي ترعاه الحكومة إقامة مؤسسات علمية وثقافية وصحية واجتماعية، والمساهمة في نشر الوسطية الإسلامية، مع مُعاونة الدولة في إقامة مشروعات خدمية وتنموية والمساهمة في تطوير مشروعات البنية التحتية وتطوير العشوائيات، والحد من ظاهرة أطفال الشوارع.
ومشكلة الحكومة أنها تتعامل في الكثير من القضايا الجماهيرية بعدم روية، رغم أنها قد تكون على صواب وتسعى للإصلاح والتطوير، لكن الآلية التي تتعاطى بها مع بعض الملفات الشائكة مثيرة للريبة، وكأنها تتحدى الشارع، وهو ما ظهر في أزمة الوقف الإسلامي، إذ أوحت أنها تخطط للسطو عليه لأغراض تنموية تخصها وحدها.
ولم تتعظ الحكومة من التداعيات السلبية التي تُلحق الضرر بسمعتها السياسية بسبب طريقة تعاملها مع ملف الخصخصة، مع أنها تُدرك جيدا أن شريحة من المواطنين تتعامل بريبة كلما طُرح مصطلح الخصخصة، وهذه المرة فالخطة تتعلق بوقف إسلامي مرتبط بهوية دينية وليس قطاعا خدميا يُمكن أن يتساهل الناس مع خصخصته.