"الأيادي الصامتة" تحيي تراث مصر وترمم آثارها
في أحد أركان قاعة النسيج المصري بالمتحف القومي للحضارة المصرية، يستقر تابوت طيني متآكل في فاترينة عرض زجاجية، بينما تكشف تركيبته الترابية وجدرانه الهشة عن قرون طويلة قضاها مدفونا تحت رمال مصر، وبداخله ترقد بقايا هيكل عظمي بجوار إناء فخاري، ما يُمثل شهادة صامتة على حياة قضيت قبل آلاف السنين.
ويُعد التابوت إحدى القطع الرئيسية في المعرض الأثري المؤقت الذي انطلق الأحد الماضي ويستمر لمدة أسبوعين بعنوان “أياد تصنع الخلود”، لتكريم الأيادي الماهرة التي تعمل خلف الكواليس في ترميم الآثار، وذلك ضمن فعاليات مصر للاحتفال باليوم العالمي للمتاحف.
وبجوار التابوت، تحدث إيهاب أحمد محمود، مدير وحدة الاستقبال والترميم الأولى بالمتحف، عن الجهود الدقيقة التي بذلت لإحياء هذه القطعة.
وقال إن التابوت يعود إلى عصور ما قبل الأسرات، ويضم رفات فتى يبلغ من العمر 16 عاماً، دفن في وضع القرفصاء. وأضاف محمود لوكالة أنباء (شينخوا) “تم العثور على التابوت خلال حفائر بمنطقة حلوان عام 1973، وظل مخزنا في حالة هشة ومتدهورة لعقود، وبدأنا بفحوص تصوير وتحاليل دقيقة، ثم انتقلنا تدريجيا نحو تثبيته وترميمه ليصبح جاهزا للعرض”.
وأعرب محمود عن امتنانه لاهتمام المتحف بدور المرممين قائلاً “مهمتنا هي الحفاظ على تراث مصر وتسليمه للأجيال القادمة بأفضل صورة ممكنة، ومثل هذا التكريم يؤكد تقدير عملنا الصامت وأهميته لحفظ حضارتنا”.
وفي فاترينة أخرى بالقرب من التابوت، برز ترميم لافت لصندوقين خشبيين مزودين بغطاءين على شكل صقر، عثر عليهما في سقارة، ويعودان إلى الدولة الحديثة والعصر المتأخر من تاريخ مصر القديم.
ورغم صغر حجمهما، فإن طلاءهما الزاهي وبنيتهما الهشة تعرضتا للتلف، وقد عمل المرممون على توثيقهما وتنظيفهما وتقويتهما، حيث أعادوا تجميع الأجزاء المتناثرة، وقوّموا الألواح الملتوية، وثبتوا الزخارف لمقاومة الحرارة والرطوبة.
وقال أحمد علي، المرمم بمعمل الأخشاب بالمتحف وعضو فريق العمل الذي رمم الصندوقين “أنا أعتبر ترميم القطع الأثرية القديمة مثل إجراء العمليات الجراحية”.
وأضاف “المرممون عنصر أساسي في بقاء التراث، لدينا خبرة عميقة في مصر، لكن لاستمرار التقدم نحتاج إلى تبادل الخبرات مع المتاحف العالمية، من خلال المشاركة في تقديم نماذج مصورة لأعمالنا بواسطة استخدام التكنولوجيا الرقمية ثنائية وثلاثية الأبعاد، دون الحاجة إلى الانتقال إلى هذه المتاحف”.
كما ضم المعرض تمثالا من الحجر الرملي على هيئة بقرة، كان مكسورا إلى قطع ويفتقد بعض أجزاء الوجه والجزء السفلي من الرأس وأجزاء من الأرجل، وقد تم تجميع وتثبيت وترميم واستكمال الأجزاء، حيث أظهرت صور ما قبل وبعد الترميم، الجهود التي تم بذلها لاستعادة شكل التمثال.
وفي زاوية أخرى من المعرض، عُرضت مجموعة من المخطوطات التاريخية التي تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، كانت تعاني من بهتان الأحبار، وتمزق الأغلفة، وتآكل الصفحات وتفككها، وقد أعيد ترميمها باستخدام تقنيات علاجية بيولوجية وكيميائية، ما ساهم في الحفاظ على شكلها المادي وقيمتها التاريخية.
ومن بين زوار المعرض، كان محمد نبيل منبهرا بشكل كبير بجهود المرممين، حيث قال “زيارة المعرض كانت تجربة جميلة، واضح تماما حجم العمل والجهد الذي بذله فريق الترميم لإعادة قطع كانت مدمرة بالكامل”.
وأشار إلى إناء فخاري كبير لفت انتباهه، أعيد تجميعه بدقة جعلته يبدو كاملا من جديد، كما أشاد بترميم المخطوطات والتماثيل الحجرية والصناديق الخشبية. وقال محمد نبيل لوكالة أنباء (شينخوا) “من الرائع أن نرى كيف يمكن إحياء تراث مفقود بطريقة تحفظه عبر الأجيال”.
من جانبها أكدت نشوى جابر، نائب الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف للشؤون الأثرية، أن “المعرض يضم قطعا نادرة تعرض لأول مرة، تجسد دقة الحرفة المصرية القديمة، وتبرز الدور الجوهري للمرممين في إعادة إحياء الكنوز الأثرية وصونها للأجيال القادمة،” بحسب بيان لوزارة السياحة والآثار المصرية.
ويقع المتحف القومي للحضارة المصرية في مدينة الفسطاط بالقاهرة على مساحة 33.5 فدان، ويستوعب المتحف خمسين ألف قطعة أثرية تحكي مراحل تطور الحضارة المصرية بالإضافة إلى عرض لإنجازات الإنسان المصري في مجالات الحياة المختلفة منذ فجر التاريخ حتى وقتنا الحاضر، كما يحتوى على نماذج وصور فوتوغرافية ومخطوطات ولوحات زيتية وتحف فنية وآثار من العصر الحجري والفرعوني واليوناني والروماني والقبطي والعربي، وحضارة السودان والعصر الحديث، ويطل موقع المتحف على بحيرة طبيعية وهي بحيرة عين الصيرة.