توسيع صلاحيات الأزهر يهدد بتقويض ملامح الدولة المدنية في مصر

وكالة أنباء حضرموت

تترقب أوساط سياسية وبرلمانية في مصر موقف الرئيس عبدالفتاح السيسي من قانون تنظيم الفتاوى الذي منح الأزهر سلطات واسعة بشكل أثار غضبا حقوقيا، باعتبار أن الصلاحيات التي اقتنصها الأزهر في القانون تنتهك حرية الرأي والتعبير والاعتقاد وتهدد مدنية الدولة وتُكرّس سلطة المؤسسة الدينية على المجتمع.

وطالبت منظمات حقوقية بتدخل الرئيس السيسي وعدم التصديق النهائي على قانون تنظيم الفتوى، وإعادته إلى مجلس النواب للمزيد من النقاش حول جدواه وتداعياته، حيث يتضمن نصوصا تضاعف سلطة المؤسسات الدينية وتنتهك الحريات.

ووافق مجلس النواب المصري بشكل نهائي أخيرا على مشروع قانون تنظيم الفتوى المقدم من الحكومة بعد الاستجابة لمطالب الأزهر، ما وصفته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بأنه خطر مجتمعي ولا يتّسق مع الإشارات العديدة في الدستور المصري إلى النظام المدني للحكم.

وتنص المادة الثانية من القانون الجديد على أن الفتوى الشرعية العامة هي إبداء الحكم الشرعي في شأن عام متعلق بالنوازل التي تؤثر على المجتمع في مختلف المجالات، متجاهلة أن المجتمع المصري متنوع ويضم ديانة أخرى خلاف الإسلام، وهذا في حد ذاته ضد المواطنة والمدنية والمساواة.

ومنح القانون هيئة كبار العلماء سلطات واسعة منها ترجيح كفة الفتوى في حال تعارضها بين المؤسسات الدينية، دون رقابة واضحة، وصلاحية إعداد اللائحة التنفيذية للقانون، ما يقيّد حريّتيْ التعبير والمُعتقد، ويسلب حق الأفراد غير التابعين للمؤسسات الدينية الرسمية في الاجتهاد.


وتزامن الرفض الحقوقي لتوسيع صلاحيات الأزهر مع تحوله تدريجيا إلى سلطة دينية موازية لسلطة الحكومة، والتي سمحت على فترات لرجال دين وشيوخ يعملون في هذه المؤسسة بالتدخل في أمور مرتبطة بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وكادت تنفجر أزمة بين الحكومة والبرلمان من ناحية، وبين الأزهر من ناحية ثانية، بسبب رفضه لمشروع قانون تنظيم الفتوى، بذريعة تقليص صلاحياته، لكن السلطة التنفيذية رضخت لمطالبه، لأن الظروف السياسية لا تسمح بصدام علني مع الأزهر والضرورة تقتضي تثبيت أركان الاستقرار في الدولة حاليا.

وتعتقد دوائر سياسية في القاهرة أن الرئيس السيسي، وإن كان يتحفظ على تغوّل المؤسسات الدينية في قضايا مدنية، لكنه يتمسك بالتعامل بحكمة لتجنيب البلاد الدخول في أزمة مرتبطة بملف عقائدي، وقد يستثمر الرفض الحقوقي لنفوذ المؤسسة الدينية في قصقصة أجنحة الأزهر بطريقة غير مباشرة.

ويظل الدّعم المقدم من قوى مدنية وحقوقية للحكومة في سعيها إلى تحجيم نفوذ الأزهر خطوة إيجابية في طريق تنحية المؤسسة الدينية عن إقحام نفسها في ملفات تهدد مدنية الدولة جراء مواقفها المتشددة وتقديسها لنصوص تراثية تتمسك بضمّها إلى مشروعات القوانين التي لها علاقة بالسياسة العامة.

واعتاد الأزهر التهديد بعدم الموافقة على أيّ قانون لا يتناغم مع سلطته الدينية، كما حدث مع تشريع تنظيم الفتوى، في حين يرى الكثير من أعضاء البرلمان أن هذا التعنت يمثل اعتداء على السلطة التشريعية، ويقود إلى تعطيل تحوّل مصر إلى دولة مدنية كالتزام دستوري واجب على كل الجهات.

وأكد الكاتب المصري خالد منتصر أن صلاحيات المؤسسة الدينية ضد أصول مدنية الدولة، وتكفي الأرقام المليونية للفتاوى التي تعكس سلفنة العقلية المجتمعية وهذا في حد ذاته يتطلب تقييد دور الفقيه لحساب العقل والقانون بعيدا عن تسيير حياة الناس بالفتاوى، والخطر الأكبر في تقييد حق الاجتهاد والتجديد.

وأضاف لـ”العرب” أنه من الخطر تحوّل الأزهر إلى سلطة موازية في المسائل المرتبطة بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، والتحجّج بمبرّرات واهية لتحقيق المزيد من النفوذ والتغلغل، وذلك يقدم هدايا مجانية لتيارات متشددة لا تكل من استقطاب الناس بفتاوى مضادة بغرض سلفنة العقول.

ويتطلب رفض مؤسسات حقوقية توسيع صلاحيات الأزهر إرادة سياسية قوية للتجاوب معها في مواجهة شعبوية المؤسسة الدينية إذا كانت هناك نوايا صادقة لتكريس الدولة المدنية، ولا يجب أن تبدو الحكومة قليلة الحيلة أمام إصرار الأزهر على انتهاك الدستور ليكون الحاكم بأمره في قضايا لا تخصه.

وتدافع أصوات قريبة من الحكومة بأن تقليص صلاحيات الأزهر، ولو تدعمها قوى سياسية وحقوقية مؤيدة ومعارضة للنظام، فهذا في حاجة إلى سيناريو سياسي يجنب السلطة الصدام مع الشريحة المجتمعية التي تتعامل مع الأزهر بقدسية، لأن التهور يقود إلى استقطاب عام يصعب وقفه بسهولة.

◙ دوائر رسمية تتمسك بتجنيب مصر صراعا ملتهبا على أساس فقهي، في ظل تحديات داخلية وتصاعد حدة التململ الشعبي من تردي الأوضاع المعيشية

وتتمسك دوائر رسمية بتجنيب البلاد صراعا ملتهبا على أساس فقهي، في ظل تحديات داخلية معقدة وتصاعد حدة التململ الشعبي من تردي الأوضاع المعيشية، بالتوازي مع نجاح الأزهر في إقناع شريحة أن أيّ استهداف لنفوذه يحمل “حربا” على الإسلام.

وتتحمل الحكومة مسؤولية كبيرة لأنها تساهلت مع زراعة جانب من التطرف في عقول الناس عندما تركت المجتمع يحتمي بالمؤسسة الدينية للبحث عن السبيل الأمثل لنمط حياة بعيد عن الدخول في دوامة الشك والتحريم، وتركت الأزهر يستقطب الناس بأريحية، وأصبح تديين المجتمع عائقا أمام مدنية الدولة.

ويعتقد معارضون لتوجه الأزهر أنه نجح في تخدير الحكومة عندما عطّل بشكل شبه متعمد أيّ حراك مرتبط بتجديد الخطاب الديني وتنقيح التراث وتطهير مشيخته من المتشددين، مقابل بناء قاعدة جماهيرية من خلال الفتوى وأصبحت لديه شعبية واسعة يحتمي بها ضد أيّ تحرك يستهدف تقويض نفوذه.

وأصبح تمرير أيّ قانون متحفظ عليه من المؤسسة الدينية يحتاج إلى سيناريو أشبه بتكتيكات الحرب، كي تجنب الحكومة نفسها الصدام مع الشارع، لأن الخشونة قد تتسبب في استنفار ديني وسياسي حاد تستثمره جماعة الإخوان والتيار السلفي لتجييش الرأي العام ضد الدولة، بذريعة أن حكومتها تخالف الدين.

ويراهن مفكرون وكتاب على حكمة الرئيس السيسي لتقويض نفوذ الأزهر، لأن سلطاته تخوّل له رفض التصديق على قانون تنظيم الفتاوى وإعادته إلى مجلس النواب للنظر في بعض مواده، إذا رأى أنها تهدد مدنية الدولة أو تخالف نصوص الدستور.

ويدرك الرئيس المصري أن التوقيت السياسي يفرض عليه تجاوز أيّ امتعاض أو غضب تجاه الأزهر، أمام تعاظم التحديات الراهنة، لأن هناك ملفات وإن كان حسمها يحتاج إلى صرامة لكن يمكن تأجيلها أو تجميدها إلى حين استقرار الأوضاع.

وبعيدا عن توقيت المعركة بين الحكومة والأزهر، فإن السيناريو الذي رسمه الأخير وجنى منه صلاحيات واسعة في قانون الفتاوى يؤكد أن الأولى شبه عاجزة عن تحجيم نفوذه، كما كانت تخطط لتثبيت أركان الدولة المدنية، ما اضطرها للاستسلام للأمر الواقع، رغم الدعم الحقوقي لها، لأن الإرادة الحاسمة لا تزال غائبة.