ثقافة وفنون
فيلم «غولدا».. كيف ترسم ملامح الحرب باستحضار الوجه الإنساني للهزيمة؟
في عمل سينمائي يبتعد عن القوالب التقليدية، يقدم المخرج الإسرائيلي غاي ناتيف فيلم «غولدا»، رؤية مختلفة لحياة رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير، خلال تسعة عشر يوماً من حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
الفيلم الذي تؤدي بطولته هيلين ميرين، يختار زاوية إنسانية مكثفة، أقرب إلى دراسة شخصية، أكثر منه عملاً حربياً أو سيرة ذاتية تقليدية.
ناتيف، الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلمه القصير Skin عام 2018، قال إن النسخة الأولى من السيناريو كانت أقرب إلى فيلم حرب، لكنه فضّل أن يترك المشاهدين «يشعرون بشخصية غولدا وكأنهم يلمسون شخصية القيادة الإسرائيلية». السيناريو الذي كتبه نيكولاس مارتن، يبدأ مع الهجوم المفاجئ الذي شنته مصر وسوريا يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول، بمساندة دول عربية أخرى، لاستعادة أراضٍ احتلتها إسرائيل عام 1967.
هيلين ميرين في فيلم «غولدا»
نتتبع مائير وهي تحاول تفادي ما تراه "إبادة محتملة" لبلادها، بينما تواجه ضغوطاً سياسية وعسكرية متشابكة. الصراع لم يكن عسكرياً فقط؛ بل سياسياً أيضاً، إذ حاولت مائير استمالة الولايات المتحدة للتدخل رغم تحفظات كيسنجر الذي تمسك بموقف الحياد في البداية لحماية المصالح النفطية الأمريكية.
وبينما تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة في البداية، تمكن جيشها من الحصول على مساعدة عسكرية أمريكية، انتهت لاحقاً بوقف لإطلاق النار شكّل بداية عملية السلام المصري الإسرائيلي.
ما يقدمه الفيلم فعلياً هو العزلة الداخلية لغولدا مائير خلال تلك الأيام، بين غرفة العمليات والاجتماعات المغلقة والزيارات الدبلوماسية، بينما كانت تخفي عن الجميع مرضها باللمفوما، وتكافح اتساع الخسائر من حولها. ميرين تحمل الفيلم بأداء يجمع بين الهدوء والقوة، فتبدو مائير في لحظات تلقيها العلاج، وفي مواقفها الحاسمة مع جنرالاتها، امرأة توازن بين الضعف الإنساني والحسم السياسي.
تتألق ميرين في مشاهدها الثنائية، خصوصاً حين تواجه وزير الدفاع موشيه دايان (رامي هويبرغر) بعد انهياره أمام فداحة الخسائر في الجولان، فتكتفي بعبارة بسيطة «أنا أحتاجك» لتعيده إلى الميدان، رغم أنها كانت قد استبعدته سراً من القيادة. كما يبرز في الفيلم حضور المساعدة الشخصية لو كدار، التي تمنح غولدا بعداً إنسانياً آخر في لحظات الإنهاك، وكذلك المشهد الذي تُظهر فيه تعاطفها مع كاتبة محاضر الجلسات التي يقاتل ابنها على الجبهة.
ويقدّم ليف شرايبر أداء لافتاً بدور وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، مبتعداً عن الصورة النمطية المعروفة عنه. ناتيف وشرايبر التقيا كيسنجر قبل بدء التصوير بيومين، واستفاد المخرج من اللقاء لاقتباس تفاصيل وحكايات أدرجها في الحوار، منها المشهد الشهير الذي يقول فيه كيسنجر: «أنا أمريكي أولاً، ووزير خارجية ثانياً، ويهودي ثالثاً»، فترد مائير بابتسامة هادئة: «في إسرائيل نقرأ من اليمين إلى اليسار».
وأحد أكثر المشاهد تأثيراً يأتي في حوارها الحاد مع كيسنجر حين تصرخ فيه قائلة: "عليك أن تختار يا هنري، إما أن تقف معي، أو سأخلق جيشاً من الأرامل واليتامى... عليك أن تختار الجانب الذي تقف فيه." مشهد يختزل الصراع السياسي والإنساني في آن، ويجعل المتفرج يعيش رهبة اللحظة وتبعات القرار.
هيلين ميرين في فيلم «غولدا»
الفيلم يعتمد أسلوباً بصرياً خانقاً ومتوتر الأجواء؛ فالسجائر التي لا تفارق يد ميرين ليست مجرد تفصيل واقعي، بل وسيلة لنقل إحساس الاختناق النفسي الذي أراده المخرج للمشاهد. الكاميرا تلازم مائير داخل غرف مغلقة، بينما تأتي أصوات المعارك من مكالمات حقيقية مسجلة عام 1973، ما يمنح المشاهد إحساساً بالتوثيق لا يحتاج إلى مشاهد قتال مباشرة.
رغم ذلك، تتعثر بعض الحوارات في المبالغة، خصوصاً في أقوال القادة العسكريين التي تقترب أحياناً من الخطابية الفارغة، مثل جملة دايان: «سنحطم عظامهم ونمزقهم إرباً». كما تتخلل الفيلم مشاهد رمزية مبالغ فيها، أبرزها كابوس تتكرر فيه الهواتف المزعجة، في محاولة لإظهار توتر مائير الداخلي، بينما كان الإيحاء البصري البسيط كافياً لنقل الفكرة.
اعتمد ناتيف في بناء القصة على شهادات مقربين من مائير، من بينهم حارسها الشخصي آدم سنير، إضافة إلى وثائق لجنة أغرانات التي شكّلت عام 1974 للتحقيق في إخفاق المخابرات الإسرائيلية في التنبؤ بالهجوم. الوثائق التي رُفعت عنها السرية قبل نحو عقد ساعدت في كشف تفاصيل جديدة حول القرارات التي اتُخذت خلال الحرب.
أحد المشاهد المفصلية يُظهر مائير أمام اللجنة، تضيء سيجارة بأخرى، وتخرج من حقيبتها دفترها الصغير الذي تسجل فيه أعداد القتلى، لتعلن تحملها المسؤولية السياسية رغم تبرئتها من التقصير العسكري. بعد عام، أعلنت استقالتها.
بداية قوية نحو الأوسكار.. فيلم دي كابريو الجديد يتصدر شباك التذاكر
الفيلم لا يكتفي بنقل الوقائع العسكرية، بل يعرض أيضاً جلسات لجنة التحقيق التي واجهت فيها مائير أسئلة حول شرعية قراراتها، فالمخرج الذي وُلد عام 1973 قبل أشهر من الحرب، يتذكر أن اسم غولدا مائير كان حاضراً في المدارس والعملات الإسرائيلية، لكنه ارتبط طويلاً بمرارة الفشل. من خلال هذا الفيلم، أراد ناتيف أن يقدمها بصورة أخرى، امرأة وجدت نفسها وحيدة أمام قرارات تاريخية لا عودة منها، وقال في تصريح له: «لو كان الأمر بيدي لأسميت الفيلم قداس لغولدا».
ورغم الانتقادات التي طالت الفيلم بسبب اختيار ميرين لتجسيد شخصية يهودية، فإن أداءها العميق وقدرتها على تجسيد ملامح الإرهاق والتحدي جعلاها محور قوة العمل. البعض وصف الفيلم بأنه "جاف" أو "تقليدي" بسبب ميزانيته المحدودة، إلا أن فريق العمل استثمر كل عنصر متاح ليحوّل القيد إلى مكسب فني يضيف واقعية قاسية للمشهد العام.
غولدا ليس مجرد استعادة لحقبة سياسية متوترة، بل قراءة بصرية ونفسية لامرأة وجدت نفسها على حافة الانهيار، تحاول أن تثبت أن القيادة ليست انتصاراً دائماً، بل عبء يتآكل ببطء تحت ضغط التاريخ.