اخبار الإقليم والعالم
ملامح التغيير في الإدارة التركية: الكفاءة تتقدم على الأيديولوجيا
ازدادت مؤخراً التقارير والتسريبات الإعلامية التي تتحدث عن قرب إجراء تغيير في التشكيلة الحكومية التركية، وحتى أن إحدى الصحف تحدثت عن أن الرئيس رجب طيب أردوغان دعا وزراءه إلى ما سماه «العشاء الوداعي» في تلميح إلى أن التغيبر الحكومي قد يتحقق في أيّ لحظة.
ولكن إذا ما وضعنا الأمر في سياق أوسع، نرى أن أردوغان بدأ ينحو منحىً جديداً فيه اعتماد أكبر على الكفاءات العلمية والخبرات، لدرجة نرى معها أن الاعتماد على الأيديولوجيا الإخوانية بات أقل من ذي قبل، ولعل أهم سبب دفعه لتبني هذا الرأي هو شعوره بأن الجمهور لا يفهمه، فهو في حاجة إلى أدوات أكثر فاعلية ليشرح نفسه للجمهور، أدوات تستخدم نفس لغة الشارع وليست بالضرورة محصورة في قالب أيديولوجي معين. ولكن هل سيعني هذا انحسار التوجه الإخواني، أو يمين الوسط المحافظ، كما يحب أردوغان أن يصفه، داخل الحزب؟ وهل يكون «شرح الذات» إن جاز التعبير هو المفتاح الضائع الذي يبحث عنه أردوغان منذ ثمانية أعوام دون جدوى؟
وهن العدالة والتنمية
أردوغان يُحسب له أنه نشط جداً، رغم سنه المتقدمة وكل ما يعاني منه من أعراض صحية، ويبدي قدرة لا تناسب سنه على متابعة التفاصيل
نبدأ من عام 2017، كان أردوغان قد تمكن من تغيير النظام السياسي في البلاد إثر استفتاء شعبي، وتحويله من برلماني إلى رئاسي، ومنح نفسه حق جمع منصب رئاسة الجمهورية وزعامة حزب سياسي، فعاد إلى «حزب العدالة والتنمية» بعد أن كان قد غادره على الورق.
ولكن كان هناك أمر يقلقه، فاستطلاعات الرأي تظهر تراجع شعبية الحزب، وهذا ما جعله يعقد العزم على إجراء تغييرات واسعة في الحزب والدولة، وأطلق، خلال أعمال مؤتمر عام لحزبه، في أغسطس من العام نفسه، مصطلح «إجهاد المعدن» وهو مصطلح فيزيائي يشير إلى الوهن وفقدان الصلابة، الذي يصيب المعدن عند تعرضه لإجهادات متكررة. وغيّر فعلاً الكثير من الرؤوس، لعل أهمها إقالة رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول.
ولكن ما حدث هو أن التراجع في شعبية الحزب استمر؛ فقد انخفضت شعبية الحزب في الانتخابات العامة لعام 2018 بحوالي خمس نقاط عن انتخابات 2015، ولم يتمكن من استعادة شيء من شعبيته في انتخابات 2019 البلدية، لا بل إنه خسر بلدية إسطنبول، التي تفوق في أهميتها أغلب الوزارات، في سيناريو جدير بتحويله إلى فيلم سينمائي؛ واستمر التراجع فخسر حوالي تسع نقاط إضافية في انتخابات 2023 العامة، وأما في انتخابات 2024 البلدية فقد هبط ليصبح الحزب الثاني من حيث الشعبية، على حساب «حزب الشعب الجمهوري» الذي صعد إلى المرتبة الأولى شعبياً بعد عقود طويلة. وتشير استطلاعات الرأي الحالية إلى أنه مستمر بالهبوط.
خلال هذه الفترة حصلت الكثير من التغييرات، وأهمها في قطاع الاقتصاد والتمويل، لأنه، وبشكل مفهوم تماماً، كانت الأزمة الاقتصادية عاملاً رئيسياً في تخفيف شعبية الرئيس. وهكذا تنقلت حقيبة وزارة الخزانة بين أكثر من شخص، بينهم صهره الذي استقال بأسلوب جدير بحكايات مؤامرات القصر العثماني حتى ليكاد يكون هروباً أكثر منه استقالة. أيضاً، الوزير محمد شيمشيك أقيل في البداية، ثم أعيد بعد محاولات غير ناجحة لإحلال شخص أفضل منه في المنصب.
وفي هذه المدة أقيل حاكم المصرف المركزي عدة مرات كذلك. وبالطبع هوى الاقتصاد، وتعاظم التضخم، حتى بات أغلب المحللين الاقتصاديين يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية بنيوية وليست عابرة. فأردوغان كان مصمماً على حلها من خلال إنفاذ صارم لنظريته التي تقول «سعر الفائدة هو السبب، والتضخم هو نتيجة» فكان يمنع رفع سعر الفائدة، ولكن ومع هذا كانت معدلات التضخم تطير محلقة، ولاحقاً أطلق العنان لسعر الفائدة حتى ارتفع لمستويات قياسية، ولكن الاقتصاد استمر بالتدهور. فالحقيقة أن الأزمة كانت «بنيوية» فعلاً، وحلها لن يكون بتطبيق نظرية نقدية فحسب، بل يتطلب تغييرات جذرية، لعل من أهمها رفع مستوى الإنتاج وتوزيع أكثر عدالة للأرباح (بمعنى زيادة الرواتب) والعمل على تخفيف الاستيراد لما يمكن الاستعاضة عنه محلياً.
إيقاظ الحنين ليس حلا
كان يقال أثناء كل عملية تغيير، سواء في الحزب أو الحكومة أو المؤسسات الإدارية، إن أردوغان يريد العودة بالحزب إلى الأيام الأولى لانطلاقته، عندما كان الحماس في أشده، وكانت هناك «قضية» تشد الشبان المنحدرين من تيارات قريبة من «الإخوان» إن لم يكونوا إخوانيين فعلاً. وكان رهانه على إعادة استقطاب من يسمون «الزعلانين» وهم عدد من المؤسسين الأوائل للحزب، الذين استبعدهم أردوغان بعدما تمكن من سدة الحكم ولم يعد في حاجة إليهم، فانكفأوا وفي قلوبهم زعل. وهكذا أعاد بولنت آرنتش وجميل تشيتشيك وغيرهما. ولكن التراجع الشعبي استمر. وزادت من تسارعه فضائح الفساد الكثيرة التي انكشفت في أكثر من اتجاه، وعلى رأسها الفضائح التي كشفها الزعيم المافيوي السابق سيدات بيكر، عن علاقة السياسة والمافيا والاستخبارات، حتى أنه تسبب بهزات حقيقية في الرأي العام. وكان لا بد بالتالي من البحث عن طريقة مختلفة.
تقول المؤشرات اليوم إن أردوغان غيّر نظرته حول التغيير اللازم هذه المرة، فالمطلوب شعبياً ليس إعادة عجائز ذوي انتماء إخواني متشدد إلى مسرح الأحداث. شعر الرئيس هذه المرة، بعد كل التغييرات التي يقوم بها، أن الشعب لا يفهمه. فالمطلوب إذن تغيير الخطاب. وللأمانة يُحسب للرئيس أردوغان أنه نشط جداً، رغم سنه المتقدمة وكل ما يعاني منه من أعراض صحية غير سهلة، ويبدي قدرة لا تناسب سنه على متابعة التفاصيل. وقد تسرب عنه أكثر من مرة أنه تحدث في اجتماعات حكومية وحزبية، مكرراً نفس العبارة بطرق مختلفة. ومفاد هذه العبارة هو: «من لا يقوم بمهامه لن يستمر بمرافقتنا في مسيرتنا.”
تغيير الخطة
الأزمة "بنيوية"، وحلها لن يكون بتطبيق نظرية نقدية، بل يتطلب تغييرات جذرية، لعل أهمها رفع مستوى الإنتاج وتوزيع أكثر عدالة للأرباح
يأتي في طليعة التغييرات، التي تمت، أو ستتم قريباً، إقالة رئيس دائرة التواصل في القصر الرئاسي، وتعيين شخص أكاديمي ذي خبرة إعلامية ودبلوماسية بدلاً منه. وهذه الدائرة مسؤولة عن الإشراف على الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، وليس سراً أن العشرات من مجموعات الذباب الإلكتروني الموالي للسلطة تابعون لها. وأقيل كذلك مجلس إدارة مؤسسة TRT المسؤولة عن الإعلام الحكومي، وأتى بمجلس جديد على رأسه شخص أكاديمي لديه نظريات حقيقية في الإدارة وفلسفة الاقتصاد. وكان الرئيس قد أقال مسؤول الإعلام والدعاية في «حزب العدالة والتنمية» الحاكم قبل بضعة أشهر.
وأصدر الرئيس كذلك تعليمات للنواب التابعين لحزبه بالتجول في مناطقهم، والالتقاء مع مختلف الفاعليات الشعبية والاجتماعية، ومعرفة هواجسها، ورفع مقترحات للأمانة العامة للحزب. وهذه العملية كانت – والحق يقال – منظمة بطريقة شديدة الدقة، فقد جرى تقسيم البلاد إلى أقسام، لكل منها شخص مسؤول عنها يقوم بتنسيق الاجتماعات فيها، ووضع جدول أعمال للالتقاء مع الفاعليات، فهناك فاعليات حرفية وأخرى سياحية وأخرى فلاحية.. وهكذا. وهناك آلية لتبويب المطالب وترتيبها واستنتاج نتائج إحصائية منها.
وأجرى الحزب الحاكم ورشة عمل مغلقة على مدى يومين، في منتجع في ريف العاصمة أنقرة. وعقدت فيه عدة ندوات وجلسات حوارية، وحضر الرئيس شخصياً عدداً منها. وبحسب ما تسرّب حتى الآن أن نقاشات عنيفة شابتها، وأن سقف النقد كان عالياً لدرجة غير معهودة، ما جعل الكاتب القريب من المعارضة سيدات بوزقورت، يشير إلى أنها ربما ورشة العمل الأكثر نجاحاً للحزب حتى الآن. ومن التسريبات أن وزير الخزانة محمد شيمشيك تعرض بشكل خاص لانتقادات كثيرة، وطالبه البعض بوضع جدول زمني لرفع الحد الأدنى للأجور، الذي يقل عن 550 دولاراً حالياً، بحيث يساير معدل التضخم ولا يتأخر عنه. وجرى حديث كذلك عن بعض التحديات الاقتصادية، مثل الأثر السلبي لحربي أوكرانيا وإيران على السياحة، والجفاف الذي يضرب المناطق الجنوبية، وسبل التعامل معها. وتناولت سهام النقد كذلك المنظر غير اللبق الذي يظهر به أثرياء الحركة الإسلامية أمام وسائل الإعلام والبذخ المبالغ فيه الذي يحيطون أنفسهم به، والمحاكمات غير العادلة التي تؤثر على الرأي العام سلباً.
ولعل أهم التسريبات التي صدرت عن الورشة هو الحديث عن التحضير لحزمة إصلاحية، للمزيد من الحريات وتخفيف الإجراءات القمعية التي أضرت بصورة البلاد خارجاً وداخلاً. ولكن التسريبات ذاتها نقلت عن أحد مسؤولي الصف الأول قوله إن الحليف «حزب الحركة القومية» يعارض هذه الإصلاحات، وقال إن الرئيس أردوغان سيتواصل مع زعيم «الحركة القومية» دولت باهتشلي لكي يغير موقفه.
وتقرر كذلك أن يطلق الحزب حملات إعلامية في اتجاهين؛ اتجاه يشرح سبب قبوله بالتفاوض مع «حزب العمال الكردستاني» المصنف على أنه حزب إرهابي؛ واتجاه يحاول استثمار الملاحقات القضائية بحق عدد من قياديي «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، ورؤساء البلديات التابعين له. فمن اللافت أن أغلب الاستطلاعات تظهر أن الرأي العام لم يتأثر سلباً بهذه الملاحقات، بل اعتبر أنها أداة حكومية غير نزيهة للاقتصاص من غريمها. وهذه النقطة قوّت من رأي أردوغان بضرورة تفعيل آلية لكي يفهمه الجمهور.
الجمهور لا يفهم الرئيس
هذه الخطوات تترافق مع تقارير إعلامية كثيرة تتحدث عن تغييرات في التشكيلة الوزارية. والبعض بدأ بالتنبؤ بتغيير هذا أو غيره من الوزراء. ولكن، ودون الدخول في التفاصيل والأسماء، فإن السياق العام يبدو واضحاً هذه المرة، وهو أن أردوغان لم يعد يبحث عمّن يوقظ «الحنين السياسي» إن جاز التعبير، بل عن أشخاص يؤدون مهامهم بأكبر قدر من الجدارة، وبأقل قدر من الفساد. ولكن تبقى هناك عثرة غير سهلة: فمهما كان خطابك الإعلامي قوياً، ومهما كان مستوى التحصيل الأكاديمي لمن يعدّه، وحتى لو كان حاصلاً على جائزة نوبل نفسها، فإن صوته لن يكون مسموعاً لدى الإنسان الفقير أكثر من صوت بكاء ابنه الجائع.
تظهر أرقام مؤسسة الإحصاء التركية الحكومية أن التضخم بلغ، في منتصف يونيو الماضي، مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي 35.05 في المئة، ولكن عند حساب زيادة الحد الأدنى الصافي للأجور بين الفترتين إياهما، نرى أن الزيادة بقيت محدودة بـ10.5 في المئة فحسب. هذا يعني أن الأعباء ازدادت بحوالي الربع على الطبقة الأشد فقراً في البلاد.
وجزء هام من هذا التضخم حصل في العام الجاري وحده، فالحد الأدنى الحالي للأجور دخل حيز التنفيذ اعتباراً من رأس السنة الجارية، وبقي ثابتاً حتى الآن (مع توقعات غير مؤكدة بتعديله في نهاية أغسطس الجاري) ولكن خلال الفترة هذه زاد التضخم زيادة ملحوظة، إذ تقول أرقام المصرف المركزي إن المواد التي كان يمكن شراؤها بمئة ليرة تركية في يناير بات يلزم لشرائها نفسها 111.08 ليرة في يونيو.
وتقول دراسة أعدها اتحاد DİSK العمالي أن 69.3 في المئة من أفراد المجتمع يعملون مقابل أجور حقيقية تبلغ في الواقع نصف الحد الأدنى المعين للأجور أو أقل.
يأتي في طليعة التغييرات، التي تمت، أو ستتم قريباً، إقالة رئيس دائرة التواصل في القصر الرئاسي، وتعيين شخص أكاديمي ذي خبرة إعلامية ودبلوماسية بدلاً منه
واللافت أن الحكومة تصر إصراراً بالغاً على معالجة الأزمة معالجة تمويلية، أو ما يطلق عليه بالسوق النقدي، فنراها تارة ترفع سعر الفائدة، وتارة تخفضه. وقد تسرب عن الورشة، التي تحدثنا عنها أعلاه للحزب الحاكم، أن وزير الخزانة وعد بتخفيض معدل الفائدة بما لا يقل عن 2.5 في المئة. ولكن هل سيجدي هذا نفعاً فعلاً؟
أحد أهم الأمثلة على الخلل البنيوي في الاقتصاد، كما تحدثنا عنه أعلاه، يرد في زاوية بقلم يلماز أوزديل، يقول فيها “نعيش في إحدى أخصب بقاع الأرض، ولكننا أحد البلدان الأكثر استيراداً للقمح. نستجلب 78 في المئة من قمحنا من روسيا، و10 في المئة من أوكرانيا، عن طريق مكتب ‘المحاصيل الزراعية‘ الذي يقوم بدوره ببيعه للصناعيين بنصف السعر، تحت مسمّى تصدير الطحين. وهكذا تذهب المبالغ إلى جيب بضعة صناعيين، بينما تتحمل الخزينة الفرق في السعر، ما تترتب عنه خسارة صافية تقدر بأكثر من خمسة وعشرين مليار ليرة في العام الواحد.”
ويتمثل خلل آخر في أسلوب «ضمان الخزينة» الذي توسعت الحكومة باستخدامه، فعندما تقرر بناء جسر ما، تقوم بإعلان مناقصة للمتعهدين تشمل بناءه واستثماره، أي أن المتعهد يبنيه على نفقته، ومن ثم يسترجع النفقات من خلال استثمار عائداته لفترة من الزمن، مضافاً إليها هامش من الربح طبعاً.
وتضمن الدولة ألا يقل عدد مستخدمي الجسر عن عدد معين، وفي حال كان أقل من الرقم المنصوص عليه في العقد تلتزم بدفع الفرق في العوائد من الخزينة. ومن المقبول وفق شريحة واسعة من الشعب التركي أن هذه الصيغة تخفي وراءها جانباً واسعاً من الفساد المقنّع. يقول النائب المعارض أولاش قاراصو إن مجموع الخسائر التي اضطرت الخزينة لدفعها بسبب «ضمان الخزينة» بلغ، في عام 2024 وحده، أكثر من 60 مليار ليرة، ما يعادل أكثر من مليار وستمئة مليون دولار بسعر ذلك العام.
إن هذه الأمثلة وسواها تظهر أن الأزمة الاقتصادية نشأت بسبب خلل بنيوي، وأن سعر الفائدة ليس سوى الصاعق الذي فجّرها. ولهذا السبب ذاته هي مستمرة حتى الآن، وتحولت إلى أزمة مزمنة.
وحلها بالتالي يستلزم أدوات من نفس طينتها، أي أن إصلاح السوق الحقيقية يجب أن يتم بأدوات حقيقية. وهو ما لم تظهر الحكومة حتى الآن نيتها، أو بالأحرى قدرتها، على فعله. وهكذا ومع استمرار تدهور الوضع المعيشي للكتلة الأكثر فقراً، والتي كانت على الدوام الخزان البشري لأردوغان وحزبه، لن تفعل الحلول التجميلية إلا تأخير السقوط وليس منعه.