اخبار الإقليم والعالم
المساعدات الإماراتية إلى غزة.. طوق نجاة يكافح «شبح المجاعة»
أعلنت الأمم المتحدة، الجمعة، رسميا تفشي المجاعة في قطاع غزة، حيث يواجه نحو 500 ألف شخص مستويات جوع "كارثية" وفق تقديرات خبرائها.
وكان المشهد الإنساني يرسم صورته القاسية بأبشع الأرقام: نصف مليون إنسان يواجهون الجوع الشديد، آلاف الأطفال مهددون بالأوبئة، ومنازل مدمرة بلا ماء ولا دواء ولا غذاء.
وفي قلب هذه العاصفة برز الدور الإماراتي بوصفه حضورًا ثابتًا في الساحة، ليس فقط عبر المساعدات المباشرة، بل من خلال رؤية سياسية وإنسانية مترابطة أعادت تعريف معنى الالتزام في زمن الأزمات.
وجمعت دولة الإمارات بين الصوت السياسي المساند للقضية الفلسطينية والمبادرات الميدانية التي لم تتوقف رغم تعقيدات الواقع.
وجاءت كلمات الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، معبّرة حين كتب على منصة "إكس": "مع إعلان الأمم المتحدة رسميًا تفشي المجاعة في غزة واعتبارها على لسان مسؤولها للشؤون الإنسانية (لحظة عار جماعي) للمجتمع الدولي، سيسجّل التاريخ أن وطني الإمارات وقف شامخًا بإنسانيته وعطائه، من خلال التزام جاد شكّل 42% من مجمل المساعدات الدولية لتخفيف حدة هذه المأساة. تظل التزاماتنا الإنسانية والسياسية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ومعاناته ثابتة وراسخة في انتمائنا العربي وضميرنا الإنساني".
بهذه الكلمات افتتح قرقاش شهادة سياسية وإنسانية تختصر الموقف الإماراتي من كارثة غزة، حيث تجاوزت الإمارات حدود التعاطف النظري إلى فعل ميداني متواصل، جسد حضورها عبر مبادرات جوية وبحرية وبرية، ومشروعات إغاثية وصحية ومائية أعادت بعض التوازن إلى حياة المدنيين في القطاع.
هذا التوازن بين السياسة والميدان جعل الموقف الإماراتي مختلفًا. فالمشهد لم يتوقف عند الخطاب الرسمي أو المواقف الدبلوماسية، بل تُرجم إلى طائرات تحمل الغذاء، سفن تنقل الإمدادات، مستشفيات تستقبل الجرحى، ومشاريع مياه تعيد الحياة لمدن عطشى.
"طيور الخير" فوق غزة
مع انسداد الطرق البرية، خصوصًا نحو شمال القطاع المحاصر، برزت مبادرة "طيور الخير" كأحد أكثر الحلول ابتكارًا ضمن عملية "الفارس الشهم 3".
وحتى 21 أغسطس/آب 2025، نفذت القوات الجوية الإماراتية 77 عملية إسقاط جوي، ألقت نحو 4028 طنًا من المواد الغذائية والإغاثية.
ولم تكن المسألة مجرد إسقاط عشوائي، بل عملية دقيقة استخدمت فيها أنظمة التوجيه عبر الأقمار الصناعية "GPS"، لضمان وصول المساعدات إلى المناطق الأشد حاجة وسط ظروف أمنية معقدة. سكان غزة وصفوا هذه الطائرات بأنها "طيور النجاة"، إذ كانت حمولتها تعني لعائلات كاملة يوماً إضافياً من الحياة.
وعكست المبادرة إصرار الإمارات على كسر القيود اللوجستية. ففي الوقت الذي تعطلت فيه القوافل على المعابر، اخترقت الطائرات الإماراتية السماء محمّلة بما يحتاجه الجائعون.
هذه العمليات لم تقتصر على الرمزية، بل أسهمت في تخفيف العبء عن آلاف الأسر، لتثبت أن التصميم الإنساني قادر على إيجاد مسارات حين تُغلق الطرق.
مشاريع المياه
أحد أبرز التحديات التي خلّفتها الحرب في غزة كان تدمير البنية التحتية للمياه، حيث تعطلت أكثر من 80% من الشبكات، وتلوثت الآبار، وانقطعت الإمدادات عن ملايين البشر. وأمام هذا المشهد بادرت الإمارات إلى مشروع استراتيجي يهدف إلى إمداد القطاع بالمياه المحلاة من الجانب المصري.
وتضمن المشروع خطًا ناقلاً بطول 6.7 كيلومتر وقطر 315 ملم، بطاقة تخدم نحو 600 ألف نسمة، بما يوفر 15 لترًا يوميًا لكل فرد. إلى جانب ذلك، شملت المبادرات صيانة الآبار، تشغيل محطات الضخ، وتوفير المولدات اللازمة لضمان استمرارية الخدمة.
وشاركت مؤسسات خيرية إماراتية مثل "الشارقة الخيرية" و"دار البر" بفاعلية في التمويل والتنفيذ، ما جعل المياه – وهي عصب الحياة – في صلب الأولويات. لم يعد الحديث مجرد أرقام، بل عن أطفال استطاعوا شرب ماء نظيف بعد أسابيع من الاعتماد على مصادر ملوثة، وعن عائلات وجدت في هذه المبادرات بارقة أمل في قلب العطش
الدعم البحري
إلى جانب الجسر الجوي، مدت الإمارات جسراً بحرياً عبر ميناء خليفة في أبوظبي، حيث انطلقت "سفينة خليفة 8"، أضخم سفينة مساعدات متجهة لغزة منذ اندلاع الحرب. السفينة حملت 7166 طنًا من المساعدات: 4372 طنًا من المواد الغذائية، 1433 طنًا من مواد الإيواء، 860 طنًا من الإمدادات الطبية، و501 طنًا من المواد الصحية.
وصلت الشحنة إلى ميناء العريش المصري، قبل إدخالها إلى غزة عبر معبر رفح. هذه الخطوة أبرزت أن المساعدات الإماراتية لم تُحصر في الجو، بل امتدت إلى البحر لتأمين إمدادات ضخمة تستحيل على الطائرات وحدها.
القيمة الإنسانية للسفينة تتجاوز أرقام حمولتها، إذ حملت معها رسالة واضحة بأن المساعدات ليست موسمية أو متقطعة، بل جهد متواصل يأخذ كل الأشكال الممكنة.
المستشفيات الميدانية والعائمة
في الميدان الصحي، أدركت الإمارات أن الأدوية لا تكفي دون منظومة علاجية قادرة على استقبال الجرحى والمرضى. لذلك أنشأت مستشفى ميدانيًا في رفح بطاقة 200 سرير، يضم أقسامًا للجراحة والعناية المركزة والباطنية والعظام وطب الأطفال والنساء والأسنان، إضافة إلى الطب النفسي.
المستشفى زُوّد بتقنيات متقدمة كالأشعة المقطعية، وصيدلية متكاملة، ومختبرات حديثة، إضافة إلى مركز للأطراف الصناعية يمنح الأمل للمصابين بإعادة الحركة.
في موازاة ذلك، واصل المستشفى العائم في ميناء العريش عمله منذ فبراير/شباط 2024، بطاقة استيعابية تبلغ 200 سرير، نصفها للمرضى ونصفها لمرافقيهم.
ويدار هذا المستشفى من طواقم إماراتية بالتعاون مع أطباء إندونيسيين، وخصص للحالات الحرجة التي لا يمكن علاجها في الداخل.
هذه المستشفيات لم تكن مجرد مرافق مؤقتة، بل صارت شريانًا لإنقاذ مئات الأرواح يوميًا، في وقت انهارت فيه البنية الصحية داخل غزة تحت ضغط القصف ونقص الموارد.
دعم إضافي للمنظومة الصحية
إلى جانب المستشفيات، دعمت الإمارات المنظومة الصحية بسيارات إسعاف مجهزة بأحدث التقنيات، بلغ عددها 17 مركبة، وخصصت للتدخل السريع في المناطق المنكوبة.
كما أطلقت حملة واسعة للتطعيم ضد شلل الأطفال، شملت آلاف الأطفال في القطاع، ضمن خطة وقائية تهدف إلى تحصين الأجيال من الأوبئة التي تترصدهم في بيئة معدومة الخدمات.
هذه الإجراءات أكدت أن النظرة الإماراتية للصحة شمولية، تتعامل مع العلاج والوقاية كمسارين متكاملين، بما يحمي حياة السكان على المدى القصير والطويل.
التزام سياسي وإنساني
تكشف الإحصاءات أن الإنفاق الإماراتي على غزة خلال أقل من عامين بلغ نحو 2.5 مليار درهم. أما بيانات الأمم المتحدة فذكرت أن الإمارات تكفلت بأكثر من 44% من إجمالي المساعدات الدولية الواصلة إلى القطاع.
وتعكس هذه الأرقام استمرارية نهج قائم على الالتزام، لا على ردود الفعل اللحظية. فالمساعدات ليست مجرد شحنات، بل سياسة ممتدة تأخذ بعين الاعتبار استدامة الدعم، وتوزيع الموارد بما يلبي الاحتياجات الأكثر إلحاحًا.
الجهود الإماراتية في غزة لا يمكن فهمها كأعمال إغاثية معزولة، بل هي امتداد لسياسة خارجية تعتبر القضية الفلسطينية ثابتًا أساسيًا.
هذا الانسجام بين الموقف السياسي والتحرك الميداني يمنح المساعدات الإماراتية بعدًا أعمق، إذ تتحول من مبادرات إغاثة إلى سياسة متكاملة تمزج بين الدعم الإنساني والتضامن السياسي.
رؤية استراتيجية لا تعرف الانقطاع
حين يُذكر أن الإمارات أسقطت آلاف الأطنان من الغذاء أو أقامت مستشفيات، قد تبدو الأرقام مجرد بيانات. لكن خلف كل رقم قصة إنسانية: طفل نجا من الجوع بفضل وجبة غذائية، مريض تجاوز الخطر بعد عملية جراحية، أم استطاعت إطعام أسرتها من شحنة وصلت عبر البحر.
هذه التفاصيل اليومية هي ما يمنح المساعدات معناها الحقيقي، إذ تتحول الأرقام إلى حكايات عن البقاء والكرامة. في غزة، لم تكن المساعدات مجرد صناديق أو شاحنات، بل رسائل حياة وسط الموت.
تؤكد التجربة الإماراتية أن العمل الإنساني ليس فعلًا طارئًا، بل سياسة لها جذور عميقة في قيم الدولة ومؤسساتها. فمن الجو عبر "طيور الخير"، ومن البحر عبر "خليفة 8"، ومن البر عبر المستشفيات ومشاريع المياه، تتجلى رؤية متكاملة لا تفصل بين الإغاثة الفورية والبناء الطويل الأمد.
في ظل حرب مستمرة وحصار خانق، يصبح لهذه الرؤية أهمية مضاعفة، لأنها تقدم نموذجًا على أن الالتزام السياسي يمكن أن يُترجم إلى مبادرات ملموسة تحمي الأرواح وتخفف المعاناة وتحافظ على الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.