اخبار الإقليم والعالم
بدء كشف أسرار أكبر مقبرة جماعية لضحايا داعش شمالي العراق
بدأت السلطات العراقية أعمالا دقيقة ومؤلمة لاستخراج رفات من مقبرة "الخسفة" الجماعية التي يقدّر أنها تضمّ آلافا من ضحايا تنظيم الدولة الإسلامية، قرب مدينة الموصل في شمال البلاد.
ولا تمثل هذه الخطوة مجرد عمل تنقيب، بل هي فصل جديد في رحلة العراق الطويلة نحو كشف الحقائق، وإعادة الاعتبار لضحايا العنف الممنهج، وإعطاء ذويهم فرصة للتعرف على أحبائهم بعد سنوات من الغموض.
وقال رئيس فرق التنقيب عن المقابر الجماعية في العراق أحمد الأسدي إن "المرحلة الأولى" التي انطلقت في العاشر من أغسطس وتتضمن "رفع الأدلة وبقايا العظام"، تشمل "سطح محيط حفرة الخسفة" الجيولوجية.
وعثر الخبراء على "عظام متفرّقة" بينها جماجم بشرية، في الموقع القريب من الموصل التي اتخذها تنظيم الدولة الإسلامية عاصمة له في يونيو 2014 وأعلنت القوات العراقية دحره في نهاية 2017 بعد معارك دامية.
وأوضح الأسدي أنه حتى الآن "لا عدد محددا للضحايا" في هذه المقبرة الجماعية، لكن السلطات قدّرت سابقا بأنه يراوح بين أربعة آلاف و15 ألفا.
وتُعد "الخسفة" واحدة من أفظع المآسي التي خلفها تنظيم داعش، وتجسد وحشية التنظيم في إخفاء جرائمه بحق الآلاف من المدنيين والعسكريين على حد سواء، وقد تكون أكبر مقبرة جماعية في العراق، بحسب تقرير للأمم المتحدة صدر في 2018.
ولفت الأسدي إلى أن هذه الحفرة "تحتوي على ضحايا من جميع القوميات والطوائف" بينهم "عناصر من الجيش وضحايا من الأيزيديين وسكان الموصل، تمّت تصفيتهم جميعا من قبل داعش".
وتعد قضية الأيزيديين أحد أبشع الجرائم التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان، حيث قام التنظيم الجهادي بعمليات إبادة جماعية وسبايا بحقهم في سنجار عام 2014، مما جعل العديد من العوائل الأيزيدية تبحث عن مصير أبنائها في المقابر الجماعية.
وأشار الأسدي إلى صعوبة تعترض أعمال انتشال الرفات، مرتبطة بتدفق المياه الكبريتية تحت الأرض والتي قد تكون تسببت في تآكل الهياكل العظمية، ما يزيد من تعقيد مهمة خبراء الطب الشرعي في "أخذ عينات الحمض النووي" لتحديد هوية الضحايا، مما يطيل من أمد عملية الكشف عن الحقائق.
وشهدت حفرة "الخسفة" الطبيعية بعمق يصل إلى 150 مترا وقطر يبلغ 110 أمتار، "واحدة من أفظع الجرائم" في العام 2016 حين أعدم جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية في يوم واحد 280 شخصا معظمهم من عناصر وزارة الداخلية، وفق السلطات المحلية.
وبعد بروزه السريع في العام 2014، كثّف تنظيم الدولة الإسلامية الإعدامات في مساحات واسعة سيطر عليها في العراق وسوريا.
وترك وراءه في العراق أكثر من 200 مقبرة جماعية قد تضمّ ما يصل إلى 12 ألف جثة، وفق الأمم المتحدة.
ولا يقتصر العمل الجاري في "الخسفة" على مجرد استخراج الرفات، بل يتعداه ليكون جزءا حيويا من مسار العدالة الانتقالية الشاملة، فكل رفات يتم انتشالها، وكل هوية يتم الكشف عنها، تعدّ دليلاً جديداً يُضاف إلى ملفات جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
وبهذه الأدلة القوية التي تقدمها المقابر الجماعية، تمضي السلطات العراقية قدما في محاكمة عناصر التنظيم الإرهابي، مؤكدة أن هذه الجرائم لن تسقط بالتقادم وأن العدالة هي السبيل الوحيد لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب.
ولا يزال العراق يكتشف مقابر جماعية تعود لعهد نظام صدام حسين الذي أطاح به الغزو الأميركي عام 2003، حيث اكتُشِفَ ما يقرب من 289 مقبرة جماعية منذ عام 2006.
ويعكس هذا التاريخ الطويل من المقابر الجماعية معاناة الشعب العراقي من حقب متتالية من العنف الممنهج، ويجعل من مهمة السلطات الحالية ضرورة أخلاقية وقانونية لإنهاء هذا الإرث المؤلم.
وتؤكد مؤسسة الشهداء الحكومية أن هذه المقابر تضم ضحايا من الحملات العسكرية ضد الأكراد في الشمال، إلى جانب ضحايا الانتفاضة الشعبانية عام 1991 في الجنوب.
وتعد عملية استخراج رفات الضحايا من "الخسفة" ليس مجرد مهمة تقنية، بل هي عمل وطني وإنساني يهدف إلى استعادة الكرامة للضحايا وتوفير الإغلاق لذويهم.
وعلى الرغم من التحديات الهائلة، خاصة مع عوامل التآكل التي تؤثر على الرفات، فإن إصرار السلطات العراقية على إنجاز هذه المهمة يبعث برسالة قوية بأن العدالة لا تعرف النسيان، وأن ذكرى الضحايا ستبقى حية حتى يتم تقديم كل من شارك في هذه الجرائم إلى المحاسبة.