اخبار الإقليم والعالم
«الجائزة الاستراتيجية».. لهذه الأسباب يستميت بوتين من أجل «دونيتسك»
منذ انطلاق العملية العسكرية الروسية الشاملة ضد أوكرانيا في 2022، ظلّ إقليم دونيتسك يتصدر مشهد الصراع باعتباره محورا رئيسيا في
المعادلة الجيوسياسية والعسكرية بين موسكو وكييف.
بالنسبة إلى الكرملين، لا يمثل الإقليم مجرد خط تماس أو مساحة جديدة للسيطرة العسكرية، بل يجسّد ما يمكن وصفه بـ"الجائزة الاستراتيجية" التي تختزل مجموعة من الأبعاد المتشابكة تشكل ورقة تفاوضية كبرى يمكن عبرها فرض إملاءات سياسية، وعمق دفاعي يحرم أوكرانيا من أهم خطوط تحصيناتها الشرقية.
كما يشكل مفصلا لوجستيا يكمّل "ممر آزوف" البرّي إلى شبه جزيرة القرم، إضافة إلى إرث صناعي يرسّخ النفوذ الروسي في المنطقة. هذه الحزمة تجعل دونيتسك، في نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أثمن من أي مكاسب متفرقة على جبهات أخرى.
وعقب لقاء قمة تاريخي بين بوتين ونظيره الأمريكي دونالد ترامب في ألاسكا، كشفت صحيفة "فاينانشال تايمز" اليوم السبت، عن أن بوتين طالب بانسحاب أوكرانيا من منطقة دونيتسك الشرقية كشرط لإنهاء الحرب، لكنه أبلغ نظيره الأمريكي بإمكانية تجميد بقية خط المواجهة إذا تمت الاستجابة لمطالبه الرئيسية.
ونقلت الصحيفة عن أربعة مصادر مطلعة القول إن بوتين قدم هذا الطلب خلال اجتماعه مع ترامب في ولاية ألاسكا أمس الجمعة.
وأضافت الصحفية أن بوتين أعلن أنه سيجمد خطوط المواجهة في منطقتي خيرسون وزابوريجيا الجنوبيتين مقابل السيطرة على دونيتسك.
دونيتسك كورقة تفاوضية
كشفت تسريبات عن لقاء ألاسكا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن موسكو طرحت إقليم دونيتسك كشرط محوري لإنهاء العمليات القتالية، مقابل تجميد خطوط التماس في جبهات أخرى.
هذا الطرح يكشف أن الكرملين لا ينظر إلى دونيتسك كهدف عسكري وحسب، بل كأداة ضغط سياسية تسمح بفرض "سلام روسي" يُقنّن مكاسب موسكو ويجعلها جزءا من الواقع الدولي الجديد.
ورغم تباين الروايات حول مضمون اللقاء، إلا أن الثابت أن الإقليم يتصدر قائمة أولويات بوتين، بوصفه نقطة التحوّل التي يمكن أن تنقل الحرب من معركة استنزاف طويلة إلى صفقة سياسية تُشرعن السيطرة الروسية شرق أوكرانيا.
"حزام الحصون" الأوكراني: العقبة الأشد
ومنذ عام 2014، عملت أوكرانيا على بناء شبكة تحصينات قوية في دونيتسك تُعرف بـ"حزام الحصون". ويمتد هذا الخط الدفاعي عبر مدن رئيسية مثل أفدييفكا، باخموت، وتشاسيف يار، ويُعتبر بمثابة الدرع الواقي للمناطق الغربية.
ويعني نجاح روسيا في السيطرة الكاملة على الإقليم تفكيك هذه المنظومة الدفاعية المعقدة، وإبعاد المدفعية الأوكرانية عن مدن وممرات إمداد استراتيجية تسيطر عليها موسكو بالفعل. لذلك لا تكتفي روسيا بمحاولة تجميد الوضع الراهن، بل تصرّ على استكمال السيطرة على كامل دونيتسك، لأنه يمثل عقدة التوازن الدفاعي لأوكرانيا في الشرق.
حماية الممر إلى القرم
عندما سقطت مدينة ماريوبول في أيدي القوات الروسية عام 2022، حصلت موسكو على جسر بري حيوي يصلها بالقرم عبر سواحل بحر آزوف. لكن هذا الممر، على أهميته، يظل مكشوفا أمام النيران الأوكرانية ما لم يُعزّز بعمق بري في دونيتسك يؤمّن خطوط السكك الحديدية والطرق السريعة التي تربط بين روستوف-نا-دونو ومليتوبول.
من هذا المنظور، تمثل السيطرة على دونيتسك خطوة ضرورية لإغلاق الحلقة حول "ممر آزوف" وضمان ديمومته. كما أن إحكام السيطرة على كامل الساحل سيجعل أي محاولة أوكرانية لاستهداف هذا الممر أكثر تكلفة وصعوبة. وبذلك يغدو الإقليم ركيزة لوجستية أساسية في مشروع موسكو لترسيخ ارتباط القرم بالبر الروسي، وهو المكسب الاستراتيجي الأهم منذ بدء الحرب.
إرث صناعي واقتصادي
يُعد إقليم دونباس، الذي يشمل دونيتسك ولوهانسك، قلب الصناعة الأوكرانية منذ الحقبة السوفياتية. ويحتوي على مناجم فحم ضخمة ومصانع صلب وإسمنت تشكّل العمود الفقري لاقتصاد المنطقة.
ورغم الدمار الكبير الذي لحق بهذه البنية التحتية جراء الحرب، ولا سيما في ماريوبول، لكن البعد الاقتصادي للإقليم لم يفقد أهميته في الحسابات الروسية.
ولن تقتصر سيطرة موسكو على ما تبقى من الموارد الصناعية، في إضعاف اقتصاد أوكرانيا وزيادة صعوبة تعافيه فقط، بل دمج هذه الموارد أيضا في منظومة اقتصادية تابعة لها. وبذلك يتحول الإقليم إلى أداة مزدوجة تعمل على إضعاف خصمها المباشر، وتعزيز قاعدة صناعية وطاقوية مرتبطة بروسيا.
قيمة عسكرية مباشرة
عسكريا، يمنح الإقليم روسيا عمقا استراتيجيا على جبهة الشرق. فالسيطرة على دونيتسك تقلّص من قدرة أوكرانيا على ضرب الممرات الحيوية بالمدفعية والطائرات المسيّرة، كما تمنح موسكو حرية أكبر للمناورة في مناطق لوغانسك وزابوريجيا.
وحتى وإن كانت المكاسب بطيئة ومرهقة، فإن موسكو تراهن على أن كل تقدم صغير في دونيتسك يساوي أضعافه في أماكن أخرى، نظرا لتأثيره المباشر على شبكة الإمداد الأوكرانية وعلى معنويات الجيش.
أداة سياسية وشرعية داخلية
منذ عام 2014، بَنَى بوتين سرديته على حماية "الناطقين بالروسية" واستعادة "الأراضي التاريخية". وقد تُوّج هذا النهج بإعلان ضم «جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك في 2022. ومن هنا فإن تحويل دونيتسك إلى "أرض روسية دائمة" ليس مجرد مكسب جغرافي، بل هو التزام سياسي يُقدَّم للرأي العام كتصحيح تاريخي يعزز شرعية الحرب.
وأي تنازل عن هذا الهدف سيُعتبر هزيمة سياسية داخلية، وهو أمر لا يبدو أن الكرملين مستعد لدفع ثمنه، خاصة في ظل حاجته المستمرة لتبرير التضحيات البشرية والمادية أمام الداخل الروسي.
الأبعاد الأوروبية والدولية
من زاوية أوسع، يشكّل مصير دونيتسك اختبارا لإرادة الغرب في الدفاع عن النظام الدولي القائم على سيادة الدول ووحدة أراضيها. والقبول بانسحاب أوكرانيا من الإقليم سيؤسس لسابقة خطيرة تتمثل في إضفاء شرعية على تغيير الحدود بالقوة، وهو ما قد يفتح الباب أمام أزمات مشابهة في مناطق أخرى من العالم.
لذلك ينظر الأوروبيون إلى دونيتسك باعتباره أكثر من مجرد قضية إقليمية، بل قضية ترتبط بتوازن الردع في القارة الأوروبية، وبمدى قدرة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو على احتواء الطموحات الروسية.