اخبار الإقليم والعالم
3 محطات نحو الانهيار.. كيف تتخطى المجاعة حدود الجسد؟
يقف آلاف الفلسطينيين في مشهد معتاد أمام المطابخ الخيرية في غزة، ينتظرون وجبات لسد الرمق.
تحذّر إدارات هذه المطابخ من نفاد مخزونها خلال أيام، بينما تواصل الأمم المتحدة دق ناقوس الخطر، فهناك نصف مليون إنسان في القطاع يواجهون المجاعة، وكل السكان بلا استثناء تحت تهديدها، بعد شهور طويلة من الصراع.
هذا المشهد ليس مجرد مأساة لحظة، بل مقدمة لسلسلة من التحولات الجسدية والنفسية التي تمتد آثارها.
الجوع تحت الأنقاض
الأشخاص الأكثر تعرضاً للآثار المادية للمجاعة هم العالقون في ظروف قاسية مثل الأنقاض أو الحصار.
هؤلاء يواجهون مشاكل قاتلة، من بينها الجوع الممتد لأيام، وهو ما يطلق سلسلة من التغيرات البيولوجية داخل أجسادهم.
يوضح أوزدن أوركتشو، أخصائي التغذية والنظام الغذائي في مستشفى NPISTANBUL للدماغ، أن بقاء الإنسان بلا طعام لمدة 72 ساعة قد يقوده إلى انهيار الأنسجة العضلية، نقص حاد في الفيتامينات والمعادن، واضطرابات خطيرة في الجهاز الهضمي.
مراحل الجوع
يشرح أوركتشو أن الجوع الناتج عن الحرمان القسري يمر بثلاث مراحل رئيسية.
في المرحلة الأولى، يحافظ الجسم على مستويات الجلوكوز عبر تكسير الجليكوجين المخزن في الكبد، لكن هذا المخزون لا يكفي سوى لساعات قليلة.
بعدها يبدأ الجسم في استهلاك الدهون والبروتينات لإنتاج الطاقة، بينما يحاول الدماغ تقليل استخدامه للجلوكوز لحماية موارده المحدودة.
أما المرحلة الثانية، التي قد تمتد لأسابيع، فيتحول خلالها الجسم إلى استخدام الدهون كمصدر رئيسي للطاقة، وتنتج الكبد أجساماً كيتونية يستعين بها الدماغ.
لكن هذه العملية تأتي على حساب البروتينات "غير الأساسية"، ما يؤدي تدريجياً إلى تدهور العضلات.
وفي المرحلة الثالثة، بعد نفاد مخزون الدهون، يصبح البروتين المصدر الأساسي للطاقة. هنا تبدأ العضلات - وهي أكبر مخزون بروتيني في الجسم - في التلاشي سريعاً، ويتدهور عمل الخلايا، فتظهر أعراض مثل فقدان الوزن الحاد، الارتباك الذهني، وزيادة القابلية للأمراض المعدية.
يرافق هذه المرحلة علامات جسدية واضحة: تقشر الجلد، تساقط الشعر، تغير لونه، ووذمة كبيرة تؤدي إلى تورم الأطراف السفلية والبطن.
ماذا يحدث إذا لم تأكل شيئاً لثلاثة أيام؟
بعد ست إلى عشر ساعات من الصيام، يستهلك الجسم معظم مخزون الجلوكوز.
خلال 12 إلى 16 ساعة، يتزايد الاعتماد على الأجسام الكيتونية، بينما يدخل الجسم في عملية "الالتهام الذاتي"، وهي إعادة تدوير الخلايا التالفة والبكتيريا لإنتاج خلايا أكثر صحة.
لكن بعد 24 إلى 32 ساعة، يتوقف الجسم عن استخدام الجليكوجين ويعتمد كلياً على الدهون، ويزداد إفراز هرمون النمو لحماية العضلات.
عند الوصول إلى 72 ساعة، تبدأ السلبيات بالتفوق: انهيار الأنسجة العضلية، نقص حاد في الفيتامينات والمعادن، واضطرابات معوية يصعب تداركها دون تدخل طبي.
خطر الشبع بعد الجوع
حين يحصل الجسم على الغذاء بعد فترة تجويع طويلة، قد تحدث "متلازمة إعادة التغذية"، وهي حالة خطيرة تحدث خلال أيام قليلة.
تتسبب في ضعف، تشنجات عضلية، نوبات، وأحياناً وفاة، نتيجة دخول الغلوكوز بسرعة إلى الخلايا وسحب الفوسفات والبوتاسيوم والمغنيسيوم وفيتامين B1 من الدم.
للوقاية منها، ينصح أوركتشو بإعادة التغذية ببطء: 20 سعرة حرارية لكل كيلوجرام من وزن الجسم في الأسبوع الأول، مع مكملات الفيتامينات، وتجنب السكريات السريعة الامتصاص.
الأمراض الناتجة عن المجاعة
الجوع الطويل لا يقتل مباشرة، بل يفتح الباب لأمراض خطيرة. ضعف المناعة الناتج عن نقص الفيتامينات والمعادن يجعل العدوى القاتل الأكبر. في المرحلة النهائية، قد يصاب الجسم بمرضين رئيسيين:
• الكواشيوركور: ينتج عن نقص البروتين، ويسبب تورماً في الأطراف وانتفاخ البطن، مع تغيّر لون الشعر إلى الأصفر المحمر.
• الماراسموس: نقص شديد في السعرات الحرارية والبروتين يؤدي إلى هزال حاد، انكماش الجلد، وجحوظ العينين.
كما تزداد احتمالات الإصابة بفقر الدم، النكاف الناتج عن نقص اليود، وأمراض نقص الفيتامينات مثل العشى الليلي (فيتامين أ)، مرض بري بري (فيتامين ب1)، والاسقربوط (فيتامين ج). أما نقص فيتامين د، فيؤدي إلى تلين العظام، وإن كان نادراً أثناء المجاعة لاعتماده على الشمس أكثر من الغذاء.
ذاكرة الجوع
المجاعة ليست حدثاً يختفي بانتهاء الجوع. أظهرت دراسة "شتاء الجوع الهولندي" خلال الحرب العالمية الثانية أن الأطفال الذين عاشوا في أرحام أمهاتهم أثناء المجاعة عانوا لاحقاً من أمراض القلب والسكري واضطرابات نفسية، رغم أنهم كبروا في بيئات غذائية كافية. يفسر العلماء ذلك بـ"الذاكرة الجينية"، أي أن ضغوط المجاعة تترك تعديلات في التعبير الجيني تنتقل إلى الأجيال اللاحقة.
هذه التغيرات لا تغيّر تسلسل الحمض النووي، لكنها تؤثر في نشاط الجينات عبر آليات مثل "مثيلة الحمض النووي"، التي قد توقف بعض الجينات أو تنشطها. هكذا يتكيف الجسم مع الإجهاد عبر تغيير مسارات الأيض وتنظيم تخزين الدهون والجلوكوز. لكن هذه التكيفات، المفيدة للبقاء في بيئة قاسية، قد تصبح عبئاً في بيئات طبيعية، مسببة أمراضاً مزمنة.
الجوع يترك بصماته
لا يقتصر أثر المجاعة على الجسد؛ بل يمتد إلى الدماغ. نقص الغذاء أثناء الحمل والطفولة المبكرة يغير من نمو الدماغ ووظائفه، ما ينعكس على القدرات الإدراكية والمزاج في أجيال لم تعش المجاعة نفسها.
التجارب على الحيوانات دعمت هذه الفرضية: الفئران التي تعرضت لنظام غذائي محدود أثناء الحمل أنجبت ذرية أظهرت قلقاً أكبر وسلوكيات تغذية مضطربة، وهي تغيرات جينية وراثية رغم أن الأحفاد لم يمروا بالمجاعة.
استراتيجيات البقاء
حتى الأجيال التي نجت من الجوع تحمل ندوبه. في تجربة أجرتها جامعة سانت ماري في تكساس عام 2017، خضعت فئران بالغة لفترات مجاعة متقطعة، ففقدت 20% من كتلتها في الفترتين الأوليين و30% في الثالثة.
أظهرت الفئران تكيفات فسيولوجية مثل انخفاض حرارة الجسم ومستويات السكر، وكأنها "تهيئ نفسها" للمجاعة التالية. يشير ذلك إلى أن الجوع لا يغيّر فقط الأفراد، بل يعيد تشكيل استراتيجيات أجسادهم وأحفادهم للتعامل مع الأزمات المقبلة.
مأساة إنسانية في غزة
المجاعة كتهديد عالمي
وفق منظمة الصحة العالمية، يعد الجوع أخطر تهديد على البشر اليوم. عندما تضرب المجاعة، ترتفع الوفيات بشكل كبير، خصوصاً بين الأطفال، ليس فقط بسبب نقص الطعام، بل أيضاً بسبب الأمراض المعدية، فقدان وظائف الأعضاء، وضعف الاستجابة المناعية.
الجوع في غزة
ما يحدث في غزة اليوم ليس فقط مأساة إنسانية آنية، بل حدث سيترك بصماته على الصحة العامة والوراثة في المنطقة لعقود قادمة.
الأجساد التي تفقد عضلاتها تحت الحصار، والأطفال الذين يولدون لأمهات جائعات، قد يحملون في حمضهم النووي "ذاكرة جوع" ستحدد مسارات حياتهم وحياة أبنائهم.
المجاعة، إذن، ليست مجرد حرمان من الطعام، بل عملية بيولوجية ونفسية ووراثية معقدة، تبدأ بفقدان الوزن، وتنتهي بإعادة تشكيل الإنسان نفسه. وفي غزة، كما في تجارب التاريخ، يثبت الجوع أنه يتخطى حدود اللحظة، ليصبح جزءاً من الحكاية الممتدة