منوعات

معركة النفوذ من وراء الشاشات.. كيف غيّرت المنصات الرقمية قواعد اللعبة؟

وكالة أنباء حضرموت

تتسارع موجات الرقمنة لتعيد تشكيل علاقة الجمهور بالمحتوى، متجاوزة الحدود التقليدية بين المواقع الإخبارية والتلفزيون والسينما والمحتوى الرقمي.

تحولت المنصات الإلكترونية من بدائل موازية إلى منافس رئيسي يعيد تعريف تجربة المشاهدة، ويضع حرية الاختيار وسرعة الوصول في مقدمة اهتمامات الجمهور.

في تقرير حديث نشرته مجلة New Media & Society أيار/مايو 2025، خلصت دراسة إلى أن خوارزميات المنصات الرقمية تمتلك سلطة هائلة في تشكيل الرأي العام وإعادة توزيع الأدوار الإعلامية، فيما أظهرت أن الدراما الرقمية اجتذبت قاعدة جماهيرية واسعة، خصوصًا بين الشباب، بعدما كسرت موسمية العرض التقليدية التي ارتبطت لعقود بالتلفزيون.

المراهقون.. جمهور المنصة الأوفياء
طبقا للدراسة، اختارت المنصات الرقمية استهداف المراهقين أولًا، باعتبارهم جمهور المستقبل. أكثر من 80% منهم بين 14 و20 عامًا يقضون أكثر من ست ساعات يوميًا في متابعة محتوى يغلب عليه الإثارة والغموض والرعب، فيما تتراجع الرومانسية إلى أدنى اهتماماتهم. ويتابع هؤلاء المواسم كاملة في جلسة واحدة، مدفوعين بشغف يتولد مع الحلقة الأولى وينتهي عند آخر الحلقات.

أما الشباب بين 20 و45 عامًا، فقد تكيّفوا مع ثقافة «المحتوى عند الطلب»، حيث يفضل نحو 70% منهم المنصات الرقمية على التلفزيون التقليدي، متأثرين بالإيقاع السريع والمواسم القصيرة الخالية من الحشو والإعلانات.

بوصلة التفاعل الحائرة

أظهرت الأبحاث أن التفاعل النشط مع الأخبار على الشبكات الاجتماعية يتراجع عالميًا؛ إذ يشارك 22% فقط من الجمهور عبر النشر أو التعليق، و31% يتفاعلون عبر الإعجاب أو القراءة، بينما يمتنع 47% عن المشاركة نهائيًا. وبينما يتزايد استهلاك الفيديو — حيث 62% من المستخدمين يشاهدوا مقاطع عبر وسائل التواصل مقابل 28% فقط عبر مواقع وتطبيقات الأخبار — أصبحت مقاطع الفيديو القصيرة على فيسبوك واكس وانستجرام ويوتيوب، الوسيلة الأبرز للوصول إلى الفئات دون 35 عامًا، مع تقدم تيك توك سريعًا في المنافسة.

تفضيلات الجمهور تعكس أيضًا تحولًا ثقافيًا؛ فـ57% يفضلون قراءة الأخبار، و30% يفضلون مشاهدتها، و13% يستمعون إليها، لكن جيل الهواتف الذكية يرى في الاستماع فرصة لإنجاز مهام متعددة.

كورونا.. ولادة عصر المنصات
شكّلت جائحة كورونا عام 2020 نقطة انعطاف حاسمة في علاقة الجمهور بالمنصات الرقمية. العزلة الطويلة، وقيود الحركة، والخوف من العدوى عززت الاعتماد على الأجهزة الشخصية للترفيه. اعتاد كثيرون متابعة أعمالهم المفضلة عبر شاشات الهواتف والحواسيب، ما رسخ عادة المشاهدة الفردية بدل العائلية.

خلال عامين فقط، ارتفعت الحصة السوقية للمنصات إلى نحو 40%، وقفزت نسبة المستخدمين الشباب بين 14 و45 عامًا إلى أكثر من 70%، بما في ذلك المغتربون العرب. المفارقة أنّ التوقعات رجحت استفادة التلفزيون من بقاء الناس في المنازل، لكن الحصيلة جاءت لصالح المنصات التي قدّمت محتوى سريعًا وخاليًا من الإعلانات، بينما بدت القنوات التلفزيونية التقليدية مثقلة بالإيقاع البطيء والإعلانات الطويلة.

إعادة رسم ملامح الدراما

غيّرت المنصات الرقمية شكل الصناعة الدرامية وقواعدها في العالم العربي، مقدّمة أعمالًا أقصر زمنًا وأكثر كثافة في الأحداث، ومتخلصة من الإطالة التي كانت سمة المسلسلات التلفزيونية التقليدية ذات الحلقات الثلاثين. تتراوح مدة الحلقات بين 15 و30 دقيقة، ما يلائم أنماط المشاهدة السريعة لجمهور الهواتف الذكية.

أصبحت الجرأة في الطرح السمة الأبرز، سواء عبر مقاربة موضوعات مسكوت عنها أو الاقتراب من القضايا اليومية بلغة شبابية، ما خلق صلة وثيقة بين الجمهور والمحتوى. كما أزاحت المنصات فكرة «النجم الأوحد»، إذ صار الاختيار يعتمد على ملاءمة الممثل للدور وليس على شهرة الاسم، ما أتاح بروز وجوه شابة تعكس الواقع بصدق.

هذه الصياغة جعلت «المشاهدة الشرهة» ظاهرة رائجة؛ إذ يميل الجمهور إلى مشاهدة الموسم كاملًا دفعة واحدة، مستبدلًا نظام الحلقة الأسبوعية بالتجربة الغامرة، التي تسمح له بالمشاركة في النقاشات مع أقرانه، وتوفر إحساسًا بالسبق والمعرفة.

سباق المشاهدات الحرة

كانت نتفليكس أول من نقل نموذج المواسم الكاملة دفعة واحدة إلى الجمهور العربي عام 2019، لتغيّر عادات المشاهدة وتدفع المنافسين إلى إعادة التفكير في استراتيجياتهم. قدّمت الشركة محتوى ينافس عالميًا بفضل استثماراتها الضخمة في الإنتاج المحلي، مثل أعمال درامية عربية تحاكي المعايير الدولية في التصوير والإخراج.

في المقابل، رفعت منصات إقليمية مثل شاهد وViu مستوى جودة إنتاجاتها، وركزت على دمج التراث المحلي مع المعايير العصرية، بينما سعت «ووتش إت» إلى حماية أرشيف التلفزيون المصري وإتاحته للأجيال الجديدة. أطلقت المنصة أيضًا محتوى حصريًا يناسب الذائقة الرقمية المعاصرة، مستفيدة من خبرات طويلة في الإنتاج التلفزيوني، ما جعلها منافسًا رئيسيًا للمنصات العالمية في المنطقة.

وفي هذا السياق، عززت «شاهد» مكانتها كأكبر مكتبة عربية للبث عند الطلب، مقدمة مئات الأعمال الأصلية والحصرية التي تلبي أذواقًا متنوعة. كما أسهمت في فتح الباب أمام الإنتاجات العربية المشتركة، ما وسّع حضور الدراما الإقليمية على الساحة العالمية.

عنوان يرقص على إيقاع السوق
لم ينجُ الإعلام الإخباري من هذا التحول. فمع تقلب الأسواق وتراجع الإعلانات، أغلقت «باز فيد» خدماتها الإخبارية في نيسان/أبريل 2023، وأوقفت «فايس» إنتاج الأخبار والبودكاست، فيما سرّح «فوكس» 10% من صحافييها في شباط/فبراير. وتحوّل الإنفاق الإعلاني إلى عمالقة مثل «غوغل» (25%) و«أمازون» (6%)، مع حصة معتبرة لـ«ميتا» عبر «فيسبوك».

القلق من التضليل بلغ مستويات غير مسبوقة؛ 56% من المستخدمين قلقون من صعوبة التمييز بين الأخبار الحقيقية والمزيفة، وترتفع النسبة إلى 64% لدى من يعتمدون على الشبكات الاجتماعية. أكثر الأخبار المضللة انتشارًا تشمل الشائعات الصحية والمعلومات السياسية المغلوطة وخطابات التشكيك في السياسات البيئية.

نزيف الانسحاب الجماعي
الضغوط الاقتصادية أجبرت كثيرًا من المستخدمين على إعادة النظر في إنفاقهم على الاشتراكات الرقمية؛ نحو 23% ألغوا اشتراكاتهم الإخبارية، فيما تفاوضت النسبة نفسها على أسعار أقل. بلغت نسبة من يدفعون مقابل الأخبار عبر الإنترنت في الدول الغنية 17% فقط للعام الثاني على التوالي. ورغم ذلك، يظل السبب الأبرز للاشتراك هو الوصول إلى محتوى عالي الجودة (51%) لا يمكن الحصول عليه مجانًا، بينما يرفض 42% الدفع تمامًا، معتبرين المصادر المجانية كافية.

أما وسائل الإعلام العامة فتواجه تحديات وجودية؛ خفض تمويل هيئة الإذاعة النمساوية 300 مليون يورو بحلول 2026، بينما دمجت «بي بي سي» قنواتها بعد تجميد رسوم الترخيص، وتواجه «SRG SSR» السويسرية استفتاءً جديدًا حول خفض التمويل. تراجعت الثقة عالميًا بقدرة هذه الوسائل على تمثيل كل الفئات في ظل انقسام الجمهور، لكنها ما زالت  وغيرها هي الوجهة الأولى للمعلومات في أوقات الأزمات مثل الحرب في أوكرانيا أو جائحة كورونا.

التطبيقات التفاعلية.. رهان جديد للتحرر
مع تراجع الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للوصول إلى الجمهور، بدأت مؤسسات إعلامية كبرى تبحث عن بدائل تتيح لها استعادة السيطرة على التوزيع والبيانات. أعلنت شركة «دوت داش ميريديث» الأميركية عن إطلاق أول تطبيق لمجلتها الشهيرة «بيبول»، مصمم بتجربة تشبه تيك توك، ويقدم القصص في هيئة تفاعلية مليئة بالصور والفيديوهات والحركة، مستهدفًا الجمهور الأصغر سنًا.

تجربة «بيبول» ليست استثناء؛ «واشنطن بوست» سبقتها بمحتوى تفاعلي، وكذلك تجارب عربية مثل «بلينكس». يرى خبراء أن هذه التطبيقات تمثل اتجاهًا استراتيجيًا لمواكبة سلوك جيلَي «زي» و«ألفا»، حيث باتت عوامل الجذب البصري جزءًا أساسيًا من أي محتوى ناجح. ومع ذلك، يظل نجاحها مرتبطًا بقدرتها على تحقيق توازن بين تكلفة الإنتاج ومحدودية العائد الإعلاني، مع تطوير دائم يجعلها بديلًا جاذبًا عن الاعتماد الكامل على خوارزميات فيسبوك وتويتر وتيك توك.

انشطار الفضاء الرقمي
إلى جانب تأثيرها العميق في الإعلام التقليدي، تثير المنصات الرقمية تساؤلات جوهرية حول مستقبل الخطاب العام. يُنظر إليها كمنابر مفتوحة للتعبير، لكنها في الواقع تعزل المستخدمين داخل «غرف صدى» تعيد تدوير القناعات المسبقة. ومع تدفق محتوى الذكاء الاصطناعي، يزداد ضجيج الإنترنت ويصعب التمييز بين المعلومات الحقيقية والمضللة، ما يهدد ركائز الثقة والمصداقية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية.

تؤدي الخوارزميات دورًا أساسيًا في هذا التشظي؛ فهي تدفع الجمهور نحو المحتوى الذي يعزز ميوله، مما يحدّ من تعرضه لوجهات نظر مغايرة، ويزيد من الاستقطاب. هذا الانقسام يعكس تحولات أعمق في بنية النقاش العام، إذ تتفتت القضايا الكبرى إلى مجتمعات مغلقة يصعب التوصل فيها إلى توافقات مشتركة، بينما تتراجع قدرة الفضاء الرقمي على تحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي كان مأمولًا في بداياته.

بناء المشهد من جديد
تتجه المنافسة بين التلفزيون والمنصات الرقمية إلى أن تكون سباقًا بلا خط نهاية؛ المنصات توسّع حضورها بدعم جيل نشأ مع الإنترنت، فيما يحتفظ التلفزيون بجمهوره التقليدي ومجانية محتواه، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية. ومع تنامي اعتماد المؤسسات الإعلامية على أدوات الذكاء الاصطناعي لفهم سلوك الجمهور، يصبح الابتكار في تقديم محتوى يوازن بين الهوية المحلية وإيقاع الرقمنة مفتاح البقاء.

حماس بغزة.. انهيار عسكري ومالي وتراجع في الشعبية


ردا على قصف «الحديدة».. 5 مسيرات حوثية تهاجم إسرائيل


خطة نسكافيه لغزو الجيل Z.. الشركة تقود عصر القهوة الباردة


قمة صينية أوروبية.. حوار ساخن في بكين على طاولة التوترات التجارية