اخبار الإقليم والعالم
الهيمنة التكنولوجية على القارة العجوز.. كابوس أوروبا الجديد
كشفت وقائع عديدة مدي هشاشة البنية التحتية التقنية في أوروبا.
قال تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" إنه في فبراير/شباط الماضي، كشف أمر تنفيذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مدى اعتماد المؤسسات العالمية على شركات التكنولوجيا الأمريكية. فقد فرض ترامب عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بسبب تحقيقه في جرائم حرب ضد إسرائيل، مما أجبر شركة مايكروسوفت على تعليق حساب بريده الإلكتروني، بعد إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هذا الأمر وضع مايكروسوفت في قلب صراع جيوسياسي حساس، وكشف كيف يمكن للقرارات السياسية الأمريكية أن تُقيد مؤسسات دولية عبر نفوذها التكنولوجي.
ووفقا للتقرير، فإن المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها لاهاي، تعتمد منذ سنوات على خدمات مايكروسوفت، بما يشمل البريد الإلكتروني والأمن السيبراني. ومع سريان العقوبات الأمريكية، اضطرت مايكروسوفت إلى تعليق بريد خان الإلكتروني، وهو ما تم بالتنسيق مع المحكمة، بحسب الشركة. ومع أن الإجراء اقتصر على خان، فإن تأثيره كان كبيرًا، حيث أثار استياء أوروبيًا واسعًا، وأصبح رمزًا للقلق المتزايد من اعتماد المؤسسات الأوروبية على التكنولوجيا الأمريكية.
واشنطن أمام لحظة فارقة.. هل تقود سباق التكنولوجيا عالميا؟
وشكلت قضية المحكمة الجنائية الدولية لحظة فاصلة. لم تعد المسألة تتعلق بخدمة بريد إلكتروني، بل بكيفية استخدام النفوذ التكنولوجي كأداة ضغط سياسي. والرسالة الأوروبية باتت واضحة: الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية لم يعد فقط مخاطرة تجارية، بل خطر على السيادة السياسية. وهو ما ينذر بتسريع أوروبا خطواتها نحو استقلال رقمي فعلي.
هيمنة رقمية؟
ورأى قادة أوروبيون في الخطوة إنذارًا بضرورة تعزيز ما يُعرف بـ"السيادة الرقمية". وقال بارت غروتهويس، عضو البرلمان الأوروبي، إن "المحكمة الجنائية الدولية أظهرت أن هذا يمكن أن يحدث. لم يعد مجرد احتمال نظري". وقد غيّر موقفه من دعم شركات التكنولوجيا الأمريكية إلى المطالبة ببنية تحتية أوروبية مستقلة.
ومن جهته، أوضح براد سميث، رئيس مايكروسوفت، أن الواقعة كشفت عن "أزمة ثقة أعمق" بين الولايات المتحدة وأوروبا. وأضاف أن المشكلة ليست في التنفيذ الفني للعقوبات، بل في توابعها السياسية والأخلاقية. فيما قالت الشركة إنها عدلت سياساتها لتجنب مواقف مشابهة مستقبلاً.
ومع أن خان خرج في إجازة مؤقتة على خلفية مزاعم بسوء سلوك نفاها، فإن آثار العقوبات ما زالت حاضرة. وقد انتقل بعض موظفي المحكمة لاستخدام خدمات بريد مشفر من شركات أوروبية مثل Proton لتجنب مزيد من التعطيلات. وأكدت المحكمة أنها تتخذ إجراءات لضمان استمرارية عملها رغم القيود.
الحوسبة وتقلبات السياسة
والواقعة أعادت إلى الواجهة التساؤلات الأوروبية القديمة بشأن الهيمنة الأمريكية الرقمية. فشركات مثل مايكروسوفت وأمازون وغوغل تسيطر على أكثر من 70% من سوق الحوسبة السحابية في أوروبا، ما يجعل مؤسساتها عرضة لتقلبات السياسة الأمريكية. وقد دفع هذا الواقع دولًا مثل ألمانيا، هولندا، والدنمارك إلى إطلاق مبادرات محلية لتقليل الاعتماد على هذه الشركات، منها استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر أو تطوير مراكز بيانات محلية.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، أُطلقت استثمارات ضخمة في البنية التحتية السحابية والذكاء الاصطناعي، وتُناقش سياسات جديدة لتشجيع الاعتماد على شركات أوروبية. وقالت ألكسندرا غيس، عضو البرلمان الأوروبي: "إذا لم نطور قدراتنا الرقمية، فلن نتمكن من اتخاذ قرارات سياسية مستقلة".
وتستغل شركات أوروبية مثل Intermax السويسرية وExoscale الهولندية هذا التحول، حيث سجلت نموًا ملحوظًا في الطلب على خدماتها. وأكد آندي ين، الرئيس التنفيذي لشركة Proton، أن "الوضع الحالي غير مستدام"، مشيرًا إلى جهود متصاعدة من الحكومات الأوروبية نحو الاستقلال الرقمي.
في محاولة لاحتواء الأزمة، زار الرئيس التنفيذي لمايكروسوفت ساتيا ناديلا هولندا في يونيو/حزيران الجاري، وأعلن عن تقديم حلول "سيادية" مخصصة لأوروبا، تتضمن ضمانات قانونية وأمنية. كما أطلقت أمازون وغوغل مبادرات مشابهة، لكن الموقف الأوروبي لم يتغير كثيرًا.
ومنذ تسريبات سنودن (المعروفة بويكيليكس) في 2013، تسعى أوروبا لتقليل اعتمادها على التكنولوجيا الأمريكية، خصوصًا مع تنامي المخاوف من انتهاكات الخصوصية والتجسس والممارسات الاحتكارية. وتواجه الشركات الأمريكية تدقيقًا متزايدًا في أوروبا بسبب قوانين الخصوصية والاحتكار.