اخبار الإقليم والعالم
العدالة الإنجابية لزوجة السجين حق يرفضه المجتمع والقانون
فتح تقرير قضائي أنصف زوجة أحد السجناء في مصر بمنحها حق الإنجاب من خلال الحقن المجري، نقاشا مجتمعيا وقانونيا حول العدالة الإنجابية لزوجات السجناء، وهو حق لا يزال البعض يرفضونه، وتتجنب الكثير من التشريعات العقابية في الدول العربية التطرق إليه بحجج ترتبط بالخوف من تبعات الخطوة.
وفي توصية قضائية تاريخية تعد الأولى من نوعها في مصر، جاء تقرير هيئة مفوضي الدولة بمحكمة القضاء الإداري في صف امرأة متزوجة بمنحها حق الحصول على عينات وتحاليل من زوجها المحكوم عليه بالسجن المشدد لإتمام عملية الحقن المجهري على نفقتها، كي تحصل على حقها الطبيعي في الأمومة، خاصة أنها لم تُنجب قبل حبس الزوج.
وأثار التقرير القضائي انقساما بين فريق يؤيد مشروعية أن تكون المرأة المتزوجة من سجين أمّا ولها أبناء، بقطع النظر عن العقوبة الموقّعة على الزوج، وفريق آخر يتحجج بأن هذا الحق يفتح الباب للمطالبة بحدوث خلوة شرعية بين المرأة وزوجها السجين، ما يُحوّل المؤسسة العقابية إلى مكان للمتعة.
ويعكس الخلاف إلى أيّ درجة لا يزال المجتمع يناقش قضية حق المرأة المتزوجة من سجين في الأمومة، من منظور يرتبط بالمتعة الجنسية بعيدا عن العدالة الإنجابية التي لا يجب أن تُظلم فيها المرأة لمجرد أن الرجل ارتكب سلوكا مشينا يتناقض مع القانون وُحكم عليه بالسجن، مقابل أن تعيش الزوجة سنوات بلا إنجاب.
وهناك شريحة من النساء تقمن بتجميد بويضات إلى حين خروج أزواجهن من السجون، لكن هذا نتاج طبيعي لعدم إنسانية بعض التشريعات العقابية في دول عربية اعتادت أن تأخذ حق المجتمع من الرجل المخطئ، وتغفل حق المرأة المتزوجة من نفس الرجل في أن تتمتع بالأمومة كي لا تتوقف حياتها بعد سجن الزوج.
وبرر القضاء المصري موقفه بأن الدستور نص على أن الأسرة أساس المجتمع ودور الدولة الحرص على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بأمر قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون، ولا يحق معاقبة امرأة لمجرد أن زوجها أخطأ وخالف القانون.
وذكر التقرير، والذي على أساسه سوف تصدر المحكمة قرارها النهائي قريبا، أن الحرية الشخصية للمواطن تأتي في أعلى مدارج حقوقه الدستورية باعتبارها حقا طبيعيا، ومنها الحق في الزواج وما يتفرع منه من الحق في تكوين الأسرة وإنجاب الأبناء وتنشئة الأفراد، ومؤدى ذلك معاملة المحبوس ومن يتبعه بما يحفظ الكرامة.
واستعانت المؤسسة القضائية في تأكيد موقفها الإنساني المنصف للمرأة بقضية كيرك ديكسون في المملكة المتحدة، وهي إحدى القضايا البارزة التي سبق ونظرتها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وتتعلق بحقوق السجناء في تكوين أسرة، وأن توفير مرافق التلقيح الصناعي لن تصبح مشكلة أمنية ومجتمعية أو تفرض مطالب مالية على الدولة.
وقتها، كان كيرك ديكسون الذي قضى عقوبة السجن مدى الحياة بتهمة القتل، تقدم وزوجته بطلب إلى السلطات البريطانية للسماح لهما بالتلقيح الصناعي لإنجاب طفل، وقوبل طلبهما بالرفض، حتى قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالسماح لهما بهذا الحق التزاما بنص المادة الثامنة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
الأصل في القوانين العقابية محاسبة من يرتكب خطأ ولا تطال العقوبة ذويه، أو تُحرم زوجته من التمتع بالإنجاب
وقالت الناشطة في مجال حقوق المرأة بالقاهرة عبير سليمان إن منح زوجة السجين الحق في الإنجاب خطوة إيجابية، تتوقف على تقدير المرأة للحالة الزوجية التي تخصها، لأنه من الظلم محاسبة المرأة على تصرف ارتكبه الرجل واستحق عليه العقوبة، لكن من المهم التفكير بعقلانية في إنجاب طفل لأب سجين في جريمة، ويجب حساب المصلحة الفُضلى للطفل من جانب المرأة، وهذا لا يعني الجور على حقها في الإنجاب وتحقيق حلم الأمومة.
وأضافت لـ”العرب” أنه يمكن للمرأة حديثة الزواج أن تصطدم بحبس الزوج عشر سنوات، ولم تكن حملت ولا أنجبت من قبل، وبالتالي يحق لها الحمل دون أن تنتظر خروج الزوج من السجن وتكون وصلت إلى مرحلة عمرية قد لا تستطيع معها الإنجاب، ولا يجب أن ننصح كل النساء المتزوجات من سجناء بالإنجاب، لأن لكل سيدة ظروفها، فقد يكون الطلاق فرصة أفضل من الاستمرار مع شخص مجرم.
وأكد التوجه القضائي المصري أنه يمكن بسهولة تكريس حق المرأة في اقتناص كامل حقوقها الطبيعية المرتبطة بالإنجاب وغيرها، مع وجود إرادة وأفق أوسع للتعاطي مع هذا الحق بجدية دون التذرع بحجج واهية مرتبطة بنظرة المجتمع أو الخوف من التطرق إلى موضوعات جدلية تلامس قضايا الجنس داخل السجون.
كما أن قضية حق المرأة المتزوجة من سجين في الأمومة الطبيعية مثارة منذ سنوات طويلة ولم تُحسم قضائيا أو قانونيا وتجاهلتها الكثير من الحكومات والمؤسسات العقابية، رغم وجود نصوص واتفاقيات دولية يمكن أن تستند إليها لإسكات أيّ صوت ذكوري في المجتمع يتمسك بالتعامل مع المرأة بطريقة أقرب إلى الدونية.
وأوضح التقرير القضائي المصري تلك الوضعية، مستندا إلى قرار رئاسي صدر عام 1981 بالموافقة على الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي نصت في المادة السادسة منها أن لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي، سواء أكان رجلا أم امرأة.
وانضمت الكثير من الدول العربية إلى تلك الاتفاقية، لكن بعض الحكومات تتعاطى مع نصوصها بريبة خشية الرؤى المجتمعية المتشددة تجاه حقوق المرأة الطبيعية، مع أنه يوجد نص قاطع يفيد بأن العائلة لها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة، ويُعترف بجميع حقوق الرجال والنساء الذين في سن الزواج بتكوين أسرة.
وبدأت القضية المنصفة لزوجات السجناء في مصر عندما طلبت زوجة أحد المسجونين منذ عام 2014 الحصول على الفحوصات الخاصة بالحقن المجهري رفقة زوجها، لكن وزارة الداخلية لم تتعاط مع حقها بجدية، فأقدمت على رفع دعوى قضائية تطلب فيها تمكينها من الإنجاب لأن زوجها سيظل بالسجن حتى عام 2037.
وتُعاني الزوجة من تراجع فرص الإنجاب بسبب تقدمها في العمر، حيث بلغت 36 عاما، كما أن حالتها الصحية لا تسمح لها بالإنجاب الطبيعي، وهي لن تجتمع بزوجها مرة أخرى قبل عام 2037، ما يجعل عملية الحقن المجهري خيارها الوحيد لتحقيق حلم الأمومة الذي لا يُمكن أن تُحرم منه وزوجها على قيد الحياة.
قضية حق المرأة المتزوجة من سجين في الأمومة الطبيعية مثارة منذ سنوات طويلة ولم تُحسم قضائيا أو قانونيا
وحرّك المركز المصري للحقوق الاجتماعية دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري بالقاهرة، ضد وزير الداخلية ومساعده لشؤون حقوق الإنسان من أجل إلغاء قرار الامتناع عن السماح للزوجة بالحصول على عينات وتحاليل من زوجها على نفقتها الخاصة، إلى أن جاء القرار القضائي في صالحها.
واستثمرت دوائر نسائية وحقوقية التقرير القضائي للنبش في ملف الخلوة الشرعية داخل السجون، وسط عدم وجود تشريعات صريحة تسمح بذلك كحق للمرأة في الإنجاب الطبيعي، لو كانت مستعدة لذلك بعيدا عن الحقن المجهري، على الرغم من أن هناك فتاوى دينية رسمية تؤكد عدم جواز حرمان النساء من هذا الحق.
وأكد مركز الأزهر العالمي للفتوى قبل خمس سنوات أنه لا يوجد مانع شرعي من إجراء عمليات الحقن المجهري لأي فئة نسائية أو ذكورية، بعيدا عن آلية تحقيق ذلك، باعتبار أن المحافظة على النسل من المقاصد الشرعية التي تحث الشريعة على المحافظة عليها ومراعاتها، وهي فتوى تعزز موقف النساء زوجات السجناء.
وتسمح بعض الدول العربية بالخلوة الشرعية بين السجناء وزوجاتهم، مثل السعودية وقطر، لكن الكثير من الدول لا تطبق هذا الحق لعدم وجود أماكن بالسجون يلتقي فيها الرجل مع زوجته بشكل آمن، أو عدم الاعتراف القانوني بالخلوة، بحجة عدم خدش حياء المرأة.
وتطالب منظمات حقوقية معنية بشؤون المرأة بحق زوجة السجين في الإنجاب، وهو إجراء طبيعي لا يجب أن يخضع لرؤى حكومية ضيقة أو تشدد مجتمعي من أيّ شريحة، وأن تكون المرأة نفسها شجاعة في اللجوء إلى القضاء لاقتناص هذا الحق بعيدا عن الخوف من النظرة المجتمعية أو الاستهداف المعنوي لها.
وذكرت الناشطة عبير سليمان في حديثها لـ”العرب” أن الأصل في القوانين العقابية محاسبة من يرتكب خطأ ولا تطال العقوبة ذويه، أو تُحرم زوجته من التمتع بالإنجاب، “فهو حق لأيّ امرأة تزوجت، لكن أحيانا يكون خطأ في حق المرأة والابن عندما يقضي الرجل سنوات عمرها كلها داخل السجن، ومن هنا نطلب من كل سيدة أن تتعامل بعقلانية، ولا تستثمر العدالة الإنجابية دون وعي لمخاطر المستقبل.”
وتظل نظرة المجتمع، أي مجتمع شرقي، إلى المرأة المحبوس زوجها، إشكالية معقدة قادت إلى أن تكون بعض الحكومات حذرة في السماح للزوجة بالإنجاب والرجل يقضي عقوبة داخل السجن، فقد تطالها الاتهامات بأنها ارتكبت خطيئة وحملت من شخص آخر، كما أن هناك أسرا لها نفس الهاجس ترى من الضروري وقف إنجاب زوجة السجين إلى حين انتهاء فترة العقوبة، ما يكرّس سلب المرأة حقها في الأمومة.
ومن شأن الإنصاف القضائي في مصر لامرأة واحدة تحمل من زوجها السجين أن تستفيد منه الكثير من النساء، وإن لم يرفعن دعوى قضائية ضد وزارة الداخلية، لأن القضاء يسن قاعدة قانونية جديدة ملزمة للحكومة لتطبق على نفس الحالات، دون أن تكون كل امرأة مطالبة بالتحرك منفردة لنيل هذا الحق.
ومهما كانت المؤسسة القضائية مرنة في تكريس العدالة الإنجابية للمرأة المتزوجة من رجل سجين، سوف تظل العبرة في عدم استسلام الزوجة وعدم إنسانية بعض التشريعات والإجراءات العقابية للسجناء، ما يفرض على المرأة أن تتحرك لاقتناص حق الإنجاب بعيدا عن الفترة التي يقضيها زوجها في السجن، لأن القضاء لن يحكم بحق إنساني لا تطالب به النساء، خاصة إذا كان هذا الحق مرتبطا بالأمومة.