اخبار الإقليم والعالم
قراءة جديدة لانتفاضة عام 2009: الجذور، الدروس، وديناميكية الأجيال
لم تكن انتفاضة عام 2009 تمرداً مفاجئاً، بل كانت نتاجاً لجرح مفتوح ونزيف مستمر منذ ثمانينيات القرن الماضي. كانت هذه الانتفاضة تحمل في طياتها جوهر الصراع وكلمة “لا” التي أطلقتها ثلاثة أجيال من الشباب والنساء في إيران بوجه حكم الملالي القروسطي.
لقد غاصت إيران في عام 2009، ولمدة 7 أشهر، في انتفاضة كانت تزداد راديكالية أسبوعاً تلو الآخر، حتى وصلت في شهري ديسمبر وينايرمن ذلك العام إلى النفي الكامل لنظام ولاية الفقيه.
في ذاكرة إيران، نرى دائماً مشاعل تسطع في هالتها المضيئة علامات لمنعطفات أو تحولات اجتماعية كبرى، وتنقل شعلتها إلى تحول ومنعطف أكبر؛ وإحدى هذه المشاعل المضيئة هي الانتفاضة العارمة لعام 2009. نعيد قراءة هذه الانتفاضة عبر جذورها، وانفجارها المفاجئ، والنتائج الناجمة عن حيوية وديناميكية الأجيال.
الانفجار الكبير
قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية لعام 2009، قام التلفزيون الحكومي بإطلاق مناظرات تميزت بثلاث خصائص:
لم تكن تتناسب مع هيكلية وطبيعة نظام ولاية الفقيه القائم على 30 عاماً من الكبت والجريمة والرقابة.
سحبت التناقضات التي كانت تبدو مخفية في الطبقات الداخلية لنظام الملالي إلى شاشة التلفزيون وجعلتها علنية.
فعلت وفجرت الغضب الشعبي العام والكراهية المتراكمة منذ 30 عاماً تجاه الحكم القروسطي.
هذه الخصائص الثلاث، مع الأرضيات التي تشكلت خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت تتربص بانتظار انفجار كبير. في يونيو 2009، قام خامنئي عبر “هندسة الانتخابات” بإخراج رأيه وخياره الخاص من صناديق الاقتراع. حدث انفجار عارم بدأ في البداية بشعار “أين صوتي؟” – خاصة في طهران – وغرقت إيران لمدة 7 أشهر في انتفاضة كانت تزداد حدة وجذرية كل أسبوع. وصلت مطالب هذه الانتفاضة في شهري ديسمبر ويناير إلى الرفض التام لولاية الفقيه. في هذه الانتفاضة، لعب جيل الشباب الإيراني – وخاصة الطالبات والنساء – دوراً فعالاً للغاية. في انتفاضة 2009، تلاحمت ثلاثة أجيال تلت انتفاضة عام 1979، مع محور طلاب الجامعات في جميع أنحاء إيران.
خلفيات التحول في المجتمع الإيراني
في انتفاضة عام 2009، ظهرت الحدود الفاصلة بوضوح بين جيل الشباب والنساء في إيران وبين نظام ولاية الفقيه، وسُجل منعطف تاريخي.
لم تكن انتفاضة 2009 تمرداً مفاجئاً، بل كانت نتاجاً لجرح مفتوح منذ عقد الثمانينيات. كانت هذه الانتفاضة تحمل خلفية ومضمون الصراع ورفض ثلاثة أجيال لحكم الملالي. كان عقد الثمانينيات مرآة تعكس الهوية والطبيعة الحقيقية لخميني، سواء في مجال السياسة الداخلية – التي قامت على الاحتكار، والرقابة، والسجن، والمجازر، والإبادة الجماعية – أو في مجال السياسة الخارجية التي بنيت على إشعال الحروب وتصدير الرجعية والإرهاب.
أدى هذان الذراعان لحفظ الحكم إلى سريان آثار الكبت والقمع في الحياة العادية للناس، وبشكل خاص تجاه النساء، والجامعات، والمدارس، وجيل الشباب في إيران. لذلك، كانت إيران منذ الثمانينيات مستعدة للغضب والتمرد ضد خميني وحكومته. ومن جانب الحكومة، فإن الشيء الذي لم يتوقف أبداً ولم يكن هناك أي توقف في دوران عجلته، هو آلة القمع للديكتاتورية الدينية والحاجة إلى الإرهاب الدولي.
التناقضات المتعمقة وغير القابلة للحل
بعد موت خميني في يونيو 1989 وفرض ملا من الدرجة الثالثة ومن خارج المدارج العليا للحوزة كولي فقيه، زادت التناقضات الداخلية للحكم حول كيفية الحفاظ على نظام الملالي. مع صعود رفسنجاني، أضيف عاملان جديدان إلى صراع الشعب مع الحكومة: إطلاق يد عصابات النظام الناهبة على كافة مصادر ثروة الشعب الإيراني وتوسع الفوارق الطبقية من جهة، ومن جهة أخرى تسارع آلة الإرهاب الدولي. في هذه الفترة أيضاً، اشتد تدخل نظام الملالي في لبنان وفلسطين وإنفاق المليارات من جيوب ورؤوس أموال الشعب الإيراني لصالح حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين.
لقد قامت الانتفاضة الكبرى والعارمة لعام 2009، ضمن حسمها لموقفها من نظام الملالي برمته، ببناء منصة قفز منها الشعب الإيراني نحو مستقبل محتوم. وفي النهاية غير المكتملة لتلك الانتفاضة، بقيت إرادة الحرية مستمرة، وهي التي طالبت في انتفاضة يناير 2018 بشعار “أيها الإصلاحي، أيها الأصولي، انتهت اللعبة”، بنفي كامل نظام الملالي بكافة أجنحته الداخلية.
العقد الأول من الألفية.. حبلى بغضب شامل
مع تراكم هذه الخلفيات من السياسات الداخلية والخارجية لنظام ولاية الفقيه، وصل المجتمع الإيراني إلى العقد الأول من الألفية الثالثة (عقد الثمانينيات الشمسي) بإمكانية غضب شامل. في هذه الأثناء، حتى خداع دجال يدعى محمد خاتمي لم يتمكن من فك الانسداد بين النظام والشعب. لقد جاء ليقيم سيركاً بينما تستمر الإعدامات في ميادين المدن الإيرانية، لعلّه يتمكن من جمع التبرعات لحكومة وليه الفقيه. أصبحت هذه الفترة أيضاً تجربة للشعب الإيراني – وخاصة النساء وجيل الشباب – بأنه “من أفعى ولاية الفقيه لا تولد أبداً حمامة الإصلاح”. انتهت فترة السنوات الثماني لسيطرة جناح “الإصلاحيين” (المطالبين باستمرار عمر نظام الملالي) بجرائم القتل المتسلسل للمفكرين والكتاب والشعراء، وإخراج أحمدي نجاد من صناديق الاقتراع المهندسة. كانت هذه السنوات الثماني أيضاً أرضية لمعرفة المزيد عن الطبيعة غير القابلة للتغيير لنظام ولاية الفقيه.
حاجة المجتمع إلى ضرورة التغيير الحتمية
وهكذا، وصلت إمكانية الغضب العام ومعها ضرورة التغيير الحتمية إلى ذروتها. الخلفيات المذكورة، بالتحالف مع الحاجة الملحة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أشعلت مشعل انتفاضة يونيو 2009. في أواخر يونيو 2009، أدت كل هذه الخلفيات والتجارب إلى تمرد وصل صداه إلى العالم بشعار “لا غزة، لا لبنان، روحي فداء لإيران”. هذا الشعار القصير تحدى ونفى بالكامل جميع السياسات الداخلية والخارجية لخميني وخامنئي على مدى العقود الثلاثة الماضية. عكس صدى هذا الشعار في صلوات الجمعة في ذلك الوقت خوف ورعب النظام بأكمله، حيث اعترفوا بأن هذا الشعار قد شكك في شرعية النظام برمته.
انتفاضة طهران في عاشوراء 2009: منعطف في رفض نظام الملالي
مثلت انتفاضة عام 2009 محطة تاريخية في نضال الشعب الإيراني ضد الديكتاتورية الدينية، حيث رسمت خطاً بارزاً في رفض النظام رغم محاولات الالتفاف عليها، مؤكدة على الإصرار الشعبي لتحقيق التغيير الجذري.
انتفاضة 2009 في ديناميكية الأجيال ودروسها
من المطلب الانتخابي إلى إسقاط النظام: على الرغم من أن انتفاضة 2009 الكبرى بدأت بشعار ومطلب “أين صوتي؟”، إلا أنها كانت في جوهرها تسعى وراء الحرية والديمقراطية، مستهدفة الأسس المعادية للحرية والديمقراطية لنظام ولاية الفقيه، ووصلت بسرعة إلى شعار “الموت لخامنئي”.
قيادة الشباب والنساء: حُملت الانتفاضة الكبرى لعام 2009 على أكتاف جيل الشباب والنساء في إيران. كان رواد هذه الانتفاضة هم الطلاب والنساء. إن حراك هاتين الشريحتين النابضتين في المجتمع الإيراني يعبر عن إحداثياتها السياسية في مواجهة نظام الملالي برمته. ومن جهة أخرى، شهدنا أن معظم شهداء وسجناء هذه الانتفاضة السياسيين كانوا من الشباب والنساء.
سقوط وهم الإصلاح: سارت انتفاضة 2009 في داخلها نحو حسم الموقف من أجنحة النظام. كان هناك تيار نشط داخل هذه الانتفاضة أطلق على نفسه اسم “الحركة الخضراء”. خلال مراحل تطور انتفاضة 2009 والصراع غير القابل للمصالحة مع النظام، اعترف هذا التيار بأنه ليس مستعداً لدفع ثمن الحرية والديمقراطية! ومن هنا، برزت الحدود تدريجياً بين هذا التيار وبين المطالبين بالتغيير الجذري. وأثبت هذا التحول المهم أنه لا يمكن تعليق أي أمل داخل هذا النظام، وأن أي توقع للتحسن أو التغيير ليس سوى سراب ووهم. والسبب واضح جداً: مع وجود الولي الفقيه على رأس هذا النظام، لا يمكن إجراء أي إصلاحات أو ترميم أو تغيير، والاستثمار في ذلك لا نتيجة له سوى إهدار الآمال والقدرات ورأس مال العمر، وفي النهاية الخيانة.
تجربة تاريخية: استمرار الانتفاضة لمدة 7 أشهر شكل تجربة سياسية وتاريخية مهمة لجيل الشباب والنساء في إيران، والتيارات السياسية الإيرانية، والسياسات الخارجية. لقد حقق جيل الشباب والنساء، بعبورهم منعطفات تلك الأشهر الثمانية، مكاسب هامة، في مقدمتها الوصول إلى طريق مسدود فيما يخص الإصلاحات من داخل النظام. اختبرت التيارات السياسية الإيرانية – سواء في الداخل أو الخارج – مرة أخرى طبيعتها ومسارها الذي سلكته مع هذا النظام منذ 20 يونيو 1981. أما السياسات الخارجية، ورغم استمرارها بشكل رئيسي في “الاسترضاء” مع الملالي، إلا أن توقعاتها وتحليلاتها تعرضت لتصدعات أساسية برزت بوضوح في انتفاضة يناير 2018.
توسع دائرة القمع وفضح الجرائم: وسعت الانتفاضة نطاق القمع ليشمل الأجنحة الداخلية للنظام أيضاً. وأدى ذلك إلى تشديد التناقض بين الأجنحة لدرجة استحالة المصالحة. ومن داخل هذا التناقض، الذي نضج بفعل غضب الشعب المستمر لثلاثة عقود، تكشفت بعض جرائم الثمانينيات، وقتل القساوسة المسيحيين، والقتل المتسلسل، وتفجير مرقد الإمام الرضا في مشهد؛ حيث اتضح أن المسبب الرئيسي لكل هذه الجرائم هو نظام الملالي ووزارة مخابراته سيئة السمعة. أدى الكشف القسري عن هذه الجرائم الحكومية المنظمة إلى زيادة غضب الشعب ضد خامنئي. وكانت النتيجة الأخرى لهذه الفضائح هي كشف أيدي “المطالبين باستمرار النظام” تحت غطاء الإصلاحيين. وكانت النتيجة أن انتفاضة 2009 اتجهت منذ سبتمبر وأكتوبر نحو رسم حدود فاصلة مع النظام برمته، ونضجت في ديسمبر ويناير لتصل إلى النفي الكامل لولاية الفقيه.
عزلة خامنئي: قامت انتفاضة 2009 بتصفية النظام من الداخل وتركت خامنئي وحيداً مع مرتزقته ومنتسبيه. ورغم أن هذه الانتفاضة لم تحقق أهدافها بسبب خيانة العناصر التي تصدرت المشهد السياسي كقيادة لها، إلا أنها رسمت خطاً عريضاً لنفي نظام الملالي. بعد هذه الانتفاضة، لم يبق لخامنئي سوى ممثلي الولي الفقيه، والبرلمان، والقضاء، والحكومة، و”حرس النظام الإيراني” وقوى الأمن والمنتفعين من مائدة الحكم. أما الثقل الكبير للطلاب والنساء وجيل الشباب الإيراني فقد انسلخ عن كلا جناحي النظام.
شهداء الحرية: كان شهداء انتفاضة 2009 من بين الأجيال الثلاثة الشابة التي تلت انتفاضة 1979 ضد الملكية. لم يرضخوا لعار عدم دفع الثمن. لقد وصلوا إلى الضرورة الفورية للحرية والنفي الكامل لنظام ولاية الفقيه. كانت أرواحهم ودماؤهم هي ثمن الحرية لوطنهم وشعبهم. لقد أدركوا أن أرض إيران، بسبب الهيمنة التاريخية لدكتاتوريات الشاه والشيخ، لن تتحرر دون دفع أثمان وتضحيات باهظة. وظلت نوافير دماء تلك التضحيات تغلي فوق أرض إيران لتستمر آمالهم وعشقهم وأمنياتهم في عزم صناع انتفاضة 2017/2018 ووحدات المقاومة، ولتشمُل دائرتها شرائح أوسع من المجتمع والمظلومين والكادحين.
منصة للمستقبل: الانتفاضة الكبرى والعارمة لعام 2009، وفي شهر يناير من ذلك العام، ضمن حسمها لموقفها من نظام الملالي برمته، بنت منصة قفز منها الشعب الإيراني نحو مستقبل محتوم. وفي النهاية غير المكتملة لتلك الانتفاضة، بقي ملف، وأمنية، ومطلب، وإرادة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مفتوحاً ومستمراً، وهو ما تجلى في انتفاضة عام 2018 بشعار “أيها الإصلاحي، أيها الأصولي، انتهت اللعبة!”، مطالباً بنفي كامل نظام الملالي بجميع فئاته الداخلية. لقد دفعت تلك الانتفاضة بجميع مطالبها، كما هي منقحة ولم تتم تلبيتها، نحو المستقبل. تلك الانتفاضة هيأت الأرضية التي لا تزال مستمرة وتتدفق بلا توقف بين الشعب ونظام الملالي، عبر حراك وانتفاضات متواصلة حتى يومنا هذا.