اخبار الإقليم والعالم
النفط أغلى من الدم.. «اتفاق هجليج» يكشف مفارقة «حرب الموارد» بالسودان
في وقت يرفض الجيش السوداني كل المساعي الإقليمية الدولية لإيقاف الحرب حقنا لدماء شعبه، اضطر إلى الانخراط في اتفاق مع "الدعم السريع" لضمان أمن حقل «هجليج»، وكأن النفط أغلى من الدم.
وأثار اتفاق طرفي النزاع، الجيش والدعم السريع، على تسوية لضمان أمن حقل هجليج النفطي، ردود فعل واسعة في السودان، إذ أتى في وقت تتضاءل فيه آمال التوصل إلى سلام يوقف الحرب التي أزهقت أرواح الآلاف وشردت الملايين، بسبب تعنت الجيش وحلفائه من الإخوان.
الاتفاق الذي قادته دولة جنوب السودان لضمان أمن أكبر حقل نفطي في السودان، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على "هجليج"، وافق عليه الجيش السوداني في الحال وانسحب من المنطقة.
واعتبر مراقبون تحدثوا لـ"العين الإخبارية" أن هذا الاتفاق جاء ليقطع الشك باليقين، بأن هروب الجيش السوداني من أي هدنة إنسانية يقترحها المجتمع الدولي والإقليمي، ودعوة قياداته المكررة للاستمرار في الحرب، يؤكد عدم اكتراثه بالأرواح ودماء الشعب السوداني، إذ لم يتردد في إيقاف المعارك حفاظا على الموارد النفطية التي يُغذي بها استمرار القتال.
اتفاق هجليج
وكانت السلطات في دولة جنوب السودان، أعلنت التوصل إلى اتفاق مع طرفي النزاع في السودان لضمان أمن حقل هجليج النفطي الواقع في منطقة حدودية، بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" عليه الأسبوع الماضي.
وقال المتحدث باسم حكومة جنوب السودان أتيني ويك أتيني خلال مؤتمر صحفي الخميس الماضي: "تم التوصل إلى اتفاق ثلاثي بين جنوب السودان والجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يمنح القوات المسلحة الجنوب سودانية المسؤولية الأمنية الأولى لحقل هجليج النفطي في سياق التوتر المتفاقم".
وأعرب أتيني عن تخوف جنوب السودان حيال انعدام الأمن المتصاعد على طول الحقل النفطي، مؤكدا أن بلاده "طالما دعت إلى حل سلمي ودبلوماسي"، دون كشف المزيد من التفاصيل حول مضمون الاتفاق.
وأوضح أن رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت توصل إلى التسوية بعد الاتصال بقائدي طرفي النزاع في السودان لحضهما على وقف المعارك في محيط الحقل.
وأكد أن "الطرفين لا يملكان القدرة في حال اشتعال الحقل" على وقف التداعيات.
حسابات المصلحة
وطبقاً لمعلومات حول حقل هجليج النفطي، فقد ظل ينتج وحده عشرات الآلاف من البراميل يوميًا، ويُعد أكبر حقول السودان النفطية، كما يشكل القلب النابض لمنظومة تصدير نفط جنوب السودان عبر خطوط الأنابيب الممتدة إلى ميناء بورتسودان شرقي السودان.
وبحسب آراء الخبراء فإن هذه المنظومة النفطية، لم تكن مجرد بنية اقتصادية، بل شريانًا سياسيًا وماليًا للدولتين. وظل السودان يحصل على رسوم عبور بمئات الملايين من الدولارات سنويًا، بينما تعتمد دولة جنوب السودان على النفط في تمويل ما يقارب كامل ميزانيتها العامة.
وطبقاً لآراء لخبراء فإن أي خلل في حقل هجليج أو خطوط الأنابيب لا يضرب اقتصادًا واحدًا، بل يُسقط معادلة مالية كاملة في الدولتين.
ورغم القتال المفتوح بين طرفي الحرب في السودان، ظهر توافق نادر على حماية المنشآت النفطية. وهو ما فسره مراقبون بأنه لم يكن تعبيرًا عن تهدئة سياسية، بل عن إدراك مشترك بأن إدخال النفط في دائرة الاشتباك المباشر يعني خسارة جماعية لا يحتملها أي طرف.
واعتبروا أن النفط خرج من كونه موردًا اقتصاديًا ليصبح «منطقة منزوعة الحرب» بحسابات المصلحة.
النفط أغلى من الدم !
واعتبر حزب الأمة القومي في السودان، أنّ الاتفاق الأمني الثلاثي الذي استهدف تحييد المنشآت البترولية ومنع تدمير البنية التحتية النفطية، بوصفها موردًا حيويًا للسودان وجنوب السودان على حدٍّ سواء، يُمثّل دليلًا جديدًا ودامغًا على أن وقف الحرب ممكن ومتاح متى ما توفّرت الإرادة السياسية الحقيقية.
وقال في بيان اطلعت عليه "العين الإخبارية": "لقد أثبتت الخطوة أن إزالة العوائق وتهدئة الصراع يمكن إنجازها سريعًا عندما تتقاطع الحرب مع المصالح الاقتصادية المباشرة لحكّام الأمر الواقع".
وأضاف: "لا شكّ أن هذا الاتفاق إيجابي ويستحق الإشادة؛ غير أنّ المؤسف حقًا أن هذا القدر من الجدية والمرونة لا يظهر إلا عندما يُهدَّد النفط، أو الإيرادات، أو شبكات المصالح، بينما يغيب تمامًا حين تكون أرواح المدنيين، وحياة المواطنين اليومية، والأمن الإنساني الشامل على المحك".
وتابع: "لا نرى اجتهادات صادقة من الأطراف المتقاتلة للجلوس على طاولة الحوار من أجل وقف نزيف الدم، أو حماية المدن، أو إنقاذ الملايين من الجوع والنزوح والمعاناة".
وزاد: "يؤكد ذلك أن الحرب لم تعد تُدار بمنطق حماية الوطن أو صون أرواح مواطنيه، بل بمنطق السيطرة على الموارد وضمان استمرار النفوذ؛ الأمر الذي يستوجب ضغطًا سياسيًا وأخلاقيًا متصاعدًا لفرض وقفٍ شامل للحرب، وتحييد حياة الناس قبل تحييد النفط، ووضع حدٍّ لاستخدام الاقتصاد سلاحًا، بينما يُترك المواطن أعزل في مواجهة الموت والدمار".
أولوية النفط
من جهته، اعتبر القيادي في تحالف "صمود" عروة الصادق، أن هذا الاتفاق يُفسر التناقض الصارخ في سلوك الجيش السوداني، قائلاً لـ"العين الإخبارية": "بينما ظل الجيش السوداني يتهرب من أي هدنة إنسانية حقيقية، ويُفشل المبادرات الدولية الرامية لوقف إطلاق النار أو حماية المدنيين، تحرك بسرعة لافتة حين تعلق الأمر بهجليج". وأضاف: "انسحاب الجيش السوداني تم فور دخول قوات الدعم السريع المنطقة، بذريعة حماية المنشآت من القصف. وهو ما يعني أن النفط يمثل لقيادات الجيش السوداني أولوية استراتيجية، أما المدن والسكان فيبقون ضمن تكلفة الحرب المقبولة"، مشيراً إلى أن هذا السلوك لا يمكن فهمه إلا إذا أدركنا أن النفط يمثل لحكومة بورتسودان، آخر شريان حيوي للبقاء.
وقال: "بالنسبة لحكومة البرهان، النفط هو مصدر العملة الصعبة شبه الوحيد، ورافعة تمويل العمليات العسكرية، وتأمين الوقود، وشراء السلاح، والحفاظ على الحد الأدنى من الوظائف السيادية".
وأوضح أن خسارة هجليج أو توقف عبور نفط جنوب السودان تعني فقدان مئات الملايين من الدولارات سنويًا، وتعني عمليًا تضييق الخناق على قدرتها على الاستمرار في الحرب. لذلك، يصبح الحفاظ على النفط مسألة وجودية للحكومة، تفوق في حساباتها أي اعتبارات إنسانية أو سياسية، على حد قوله.
مفارقات مذهلة
المحلل السياسي والباحث الأكاديمي في السودان، حاتم طه، يرى أن النفط بالنسبة لحكومة بورتسودان ليس موردا اقتصاديا فحسب، بل هو أداة بقاء سياسي، فهو يوفر الحد الأدنى من الإيرادات، ويمنحها هامش حركة دبلوماسيًا، ويُستخدم كدليل على استمرار مؤسسات الدولة ولو في حدها الأدنى.
وقال طه لـ"العين الإخبارية": "بدون هذا المورد، تتحول الحكومة إلى سلطة بلا موارد وبلا أوراق تفاوضية، وهو سيناريو أكثر خطورة عليها من أي تنازل عسكري موضعي".
وأضاف: "في المقابل، فإن مصلحة الدعم السريع في استمرار تدفق النفط لا تقل وضوحًا، حتى وإن لم يكن المستفيد المباشر من عوائده"، مشيراً إلى أن الحفاظ على النفط يمنح الدعم السريع، ورقة مهمة في معادلة التفاوض المستقبلية، ويجنبه العزلة الدولية الكاملة، ويتيح له تقديم نفسه كطرف قادر على حماية المصالح الإقليمية والدولية، لا كقوة عسكرية منفلتة تسعى إلى تدمير ما تبقى من الدولة.
وبحسب طه فقد أصبح النفط أحد أكثر مفارقات الحرب السودانية تعبيرًا عن طبيعتها الحقيقية، قائلاً: "حرب تُدار بلا اعتبار للأرواح، لكنها تتوقف عند الموارد التي تضمن استمرارها، فالنفط هنا لا يُدار بمنطق النصر والهزيمة، بل بمنطق أدق وأقسى: كيف تستمر الحرب دون أن تنهار اللعبة كلها؟"، على حد وصفه.