منظمات الإغاثة في الساحل: جواسيس في نظر العسكر وعملاء في عيون الجهاديين

وكالة أنباء حضرموت

تجد المنظمات غير الحكومية في منطقة الساحل المضطربة نفسها عالقة بين المجالس العسكرية الحاكمة التي تتهمّ أعضاءها بأنهم جواسيس والجهاديين الذين يرون فيهم رمزا للنفوذ الغربي.

ويعتمد نحو 30 مليون شخص على المساعدات الإنسانية التي توفرها المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية في المنطقة التي تعد مركزا للإرهاب العالمي.

ويقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) “تتركّز الاحتياجات في وسط منطقة الساحل”، في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر حيث تعد المساعدات حيوية بالنسبة لنحو 15 مليون شخص.

ومنذ استيلائها على السلطة، وضعت المجالس العسكرية مسائل السيادة ومكافحة الجهاديين على رأس أولوياتها، ما فاقم الضغوط على المنظمات غير الحكومية وتلك التي تتلقى تمويلا من الخارج.

في أكتوبر 2024، توقّفت منظمة “أطباء بلا حدود” عن العمل في بلدة دجيبو الكبيرة في شمال بوركينا فاسو والمحاصرة من الجهاديين، بعد هجمات استهدفت مراكزها الصحية

وفي بوركينا فاسو، سُحبت تصاريح عمل 21 منظمة غير حكومية في غضون شهر واحد بين يونيو ويوليو، لما قالت السلطات إنه أسباب إدارية. وتم تعليق عمل ثلاث جمعيات أخرى لمدة ثلاثة أشهر.

وقال عضو في إحدى الجمعيات لفرانس برس “إنها ضربة قوية لكننا نعمل على الامتثال إلى المتطلبات القانونية. في الوقت الحالي، تم تعليق أنشطتنا”.

وفي مالي المجاورة، تم منذ العام 2022 تعليق عمل المنظمات غير الحكومية الممولة أو المدعومة من القوة الاستعمارية السابقة فرنسا والتي قطع المجلس العسكري الحاكم العلاقات معها.

وتنوي السلطات بقيادة العسكريين أيضا فرض ضريبة نسبتها 10 في المئة على تمويل المنظمات غير الحكومية والجمعيات ليتم استثمارها في “التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية” في مالي، بحسب مسودة قانون.

مهمات تخريبية

أمر المجلس العسكري الحاكم في النيجر المنظمات غير الحكومية بمواءمة أنشطتها مع أولوياته التي يقول إنها تشمل تعزيز الأمن وتطوير مراكز الإنتاج لدعم الاقتصاد والحوكمة الجيّدة.

وفي نوفمبر 2024، ألغى تصاريح عمل مجموعة “أكتيد” الفرنسية وجمعية محلية أخرى هي “أكشن فور ويلبيينغ”.

وأعلن وزير الداخلية الجنرال محمد تومبا بعد شهرين أن “العديد من المنظمات غير الحكومية” في النيجر تنفّذ “مهمّات تخريبية” عبر “الدعم الذي تقدّمه عادة للإرهابيين”.

ثم في فبراير، صدرت أوامر للجنة الدولية للصليب الأحمر بمغادرة الدولة الواقعة في غرب أفريقيا، حيث عملت منذ العام 1990، وذلك بتهمة “التواطؤ مع إرهابيين”.

وفيما تجد نفسها تحت ضغط المجالس العسكرية، سيتعيّن على المنظمات غير الحكومية أيضا مواجهة هجمات المجموعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية التي ترى فيها تهديدا لسلطتها وفكرها.

وكانت منطقة الساحل مركز “الإرهاب” العالمي للعام الثاني على التوالي في 2024، إذ وقعت فيها أكثر من نصف حالات القتل المنسوبة إلى الهجمات الإرهابية حول العالم، بحسب مؤشر الإرهاب العالمي.

وقالت “أوتشا” إن 26 عاملا في مجال الإغاثة على الأقل قتلوا في منطقة الساحل العام الماضي فيما أصيب وخطف كثيرون في 116 حادثا أمنيا.
وأفاد عامل من بوركينا فاسو في مجال الإغاثة، طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لفرانس برس بأن “عملياتنا باتت مقتصرة على بضع مدن. لنقل الموظفين أو الإمدادات مثلا، نفضّل النقل الجوي الأكثر كلفة في وقت نكافح لجمع الموارد”.

وقال عامل نيجري في منظمة غير حكومية إن العديد من المنظمات “باتت حاضرة على الأرض بفضل موظفيها المحليين، وهو أمر يقلّص المخاطر”.

الحلول محل الدولة

في أكتوبر 2024، توقّفت منظمة “أطباء بلا حدود” عن العمل في بلدة دجيبو الكبيرة في شمال بوركينا فاسو والمحاصرة من الجهاديين، بعد هجمات استهدفت مراكزها الصحية ومكاتبها.

وقبل عدة سنوات، أُجبرت المنظمة الخيرية على مغادرة مدينة ماين سوروا في جنوب شرق النيجر على الحدود مع نيجيريا بسبب هجمات نفّذها جهاديو بوكو حرام في أغسطس 2020.

وقال المحلل لدى شركة “أليرت:24” لاستشارات المخاطر شارلي ويرب “يتم استهداف المنظمات غير الحكومية نظرا إلى أن الجماعات المتطرفة تسعى لترسيخ نفسها كسلطات بديلة شرعية”.

وأفاد “تريد الحلول محل الدولة، ما يعني ليس دفع الدولة خارج المنطقة فحسب، بل كذلك المنظمات التي تعتبر بأنها تقدم خدمات باسمها”.

الحفاظ على الحد الأدنى من الاستجابة الإنسانية والاغاثية العاجلة مشروط سياسيا ومقيد ميدانيا ومهدد أمنيا

وأعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة والتي تنشط في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، أنها “لن تسمح للمنظمات غير الحكومية بأن تنشط في المناطق الخاضعة لسيطرتها إلا إذا لم تتعارض أنشطتها مع مبادئها الدينية”.

وفرضت المجالس العسكرية على المنظمات غير الحكومية التحرّك برفقة مسلحين في خطوة صُورت على أنها لتأمين طواقمها. لكن العاملين في مجال الإغاثة يعتقدون أن هدفها الرئيسي هو مراقبة أنشطتهم.

وقال عنصر إغاثة من بوركينا فاسو إن “القيام بأنشطتنا في ظل مرافقة عسكرية يمكن أن يعرقل عملنا ويجعلنا عرضة لهجمات الأطراف المتحاربة”.

ولا تمر منطقة الساحل فقط بأزمة أمنية، بل أيضا بأزمة مشروعية سياسية. فالصراع المتصاعد بين المجالس العسكرية والجماعات الجهادية لا يدور فقط حول السيطرة على الأرض، بل أيضا على النفوذ الرمزي، وعلى من يملك “حق تقديم الخدمة العامة” في غياب الدولة.

ومع تآكل مؤسسات الدولة بفعل الانقلابات المتكررة وانسحاب القوى الدولية، تحوّلت المنظمات غير الحكومية إلى الطرف الوحيد الذي يملأ الفراغ الاجتماعي، وهو ما يفسر استهدافها من الطرفين.

وتسعى الأنظمة العسكرية التي استولت على الحكم بعد سلسلة من الانقلابات بين 2020 و2023 إلى إعادة صياغة دور الدولة بطريقة تقطع مع الماضي الاستعماري والاعتماد على الغرب.

ولذلك، فإن المنظمات غير الحكومية، لاسيما الغربية منها، تُعدّ امتدادا غير مباشر لذلك النفوذ، ويُنظر إليها أحيانًا كأداة ضغط أو حتى تجسس، ما يفسر محاولات تحجيمها عبر سحب التراخيص، وفرض الضرائب، أو التحكم في أولوياتها التشغيلية.

ومن جهة أخرى، فإن التنظيمات الجهادية ترى في عمل هذه المنظمات تهديدا مضاعفا. فهي لا تمثل فقط “قيما خارجية” مرفوضة مثل العلمانية، وحقوق المرأة، والعمل الإنساني المحايد، بل تُضعف كذلك قدرتها على جذب السكان المحليين عبر تقديم الخدمات الأساسية مثل الغذاء والماء والرعاية الصحية.

ومع سعي هذه الجماعات إلى بناء “أنظمة حكم بديلة”، يصبح استهداف المنظمات غير الحكومية جزءًا من مشروع سياسي أكثر منه عملا عسكريا محضا.

والقيود المفروضة على المنظمات، مثل إلزامها بالحركة تحت الحماية المسلحة، ليست إجراءات أمنية بقدر ما هي أدوات للرقابة والحدّ من استقلالية هذه المنظمات.

وهذه الديناميكية تحوّل الإغاثة الإنسانية إلى ساحة صراع إضافية في حرب متعددة الأبعاد، فيها للسياسة، والأيديولوجيا، والرمزية حضور لا يقلّ عن العنف المباشر.

كما أن انسحاب القوات الفرنسية من الساحل، خصوصا من مالي والنيجر، أوجد فراغا لا يملؤه أي بديل مؤسسي فعّال، مما ضاعف اعتماد المجتمعات على منظمات الإغاثة. لكن هذا الاعتماد أصبح عبئا على الحكومات العسكرية التي تسعى إلى إعادة فرض السيطرة الكاملة، ولو على حساب تفاقم الأزمات المعيشية.

وفي هذا السياق، تحوّلت المنظمات غير الحكومية المحلية إلى عنصر حاسم في استمرار العمليات، ولكن بثمن باهظ: ضعف التمويل، محدودية الحركة، والتعرض للخطر في ظل انهيار منظومة الحماية الدولية.

وقد يؤدي هذا التغيير إلى تراجع في جودة الخدمات، ما يزيد من هشاشة السكان المحليين الذين هم أصلا في قلب أكثر منطقة تعاني من التغير المناخي، وانعدام الأمن الغذائي، وتراجع التنمية.

وبينما تسعى الأمم المتحدة وشركاؤها الدوليون إلى الحفاظ على الحد الأدنى من المساعدات، تبدو الظروف الحالية مؤهلة لتكريس حالة من “الإنسانية المحاصرة”، حيث تكون الاستجابة الإنسانية مشروطة سياسيا، ومقيدة ميدانيا، ومهددة أمنيا.

ويخلق الامتداد الجغرافي الشاسع لمنطقة الساحل، والذي يغطي مساحات صحراوية مترامية بين موريتانيا وشرقي تشاد، تحديات غير مرئية في عمل المنظمات. فغياب البنى التحتية، وقلّة الطرق المعبدة، وانعدام شبكات الاتصالات في معظم المناطق، يجعل إيصال المساعدات مهمة شبه مستحيلة في أفضل الظروف، فكيف الحال مع انتشار الجماعات المسلحة وغياب الدولة؟

ويجعل هذا الوضع من كل رحلة ميدانية عملا لوجستيا معقّدا يتطلب إذنا من السلطات العسكرية، وتنسيقا مع المجتمعات المحلية، وتحليلا أمنيا شبه يومي.

ويتمثل أحد أكثر الإشكالات تعقيدا في انعدام الوضوح بين العمل الإغاثي الطارئ والمساعدات التنموية طويلة الأجل.

وفي حين تزداد الاحتياجات اليومية (الغذاء، المياه، الرعاية الصحية)، تسعى الحكومات العسكرية لإعادة هيكلة القطاع التنموي وفق أجنداتها الخاصة، مما يضع المنظمات في مأزق: هل تواصل التدخلات الطارئة التي تُبقي السكان على قيد الحياة فقط، أم تستثمر في مشاريع تنموية قد لا تتماشى مع شروط السلطات؟

ويفتح هذا المأزق الباب لاتهامات بالتواطؤ من الجانبين، ويجعل من كل تدخل إنساني مشروعا محفوفا بالمخاطر السياسية والأخلاقية.

وتنذر هذه المعادلة بالمزيد من الكوارث الصامتة في واحدة من أكثر المناطق المنسية على الخارطة العالمية.