"ريستارت": موت الضمير أمام انتشار ثقافة التريند
يحكي فيلم “ريستارت” للمخرجة المصرية سارة وفيق قصة شاب فقير يُدعى محمد، يعيش في حي شعبي، ويحلم بالزواج وتحقيق ذاته، إذ يعاني من عدم التقدير رغم فكرة اجتماعية طموحة، لكنه يكتشف أن النجاح في عالم اليوم لم يعد يرتبط بالأفكار، وإنما بمن يمتلك شعبية افتراضية على مواقع التواصل، ومن هنا تنقلب حياته ويجد نفسه هو وأسرته في صراع مع هذا العالم الجديد، خاصة حينما يقتحمهم رجل أعمال يدعى الجوكر، ممثل العالم الرأسمالي الرقمي، ويعرض عليهم الشهرة مقابل طاعتهم العمياء.
الفيلم من سيناريو أيمن بهجت قمر، وبطولة كل من تامر حسني، وهنا الزاهد، ومحمد ثروت، وباسم سمرة.
تعالج فكرة سيناريو “ريستارت” قضية شائكة بطابع كوميدي سلس وبسيط، ولا يتعمق في تعقيدات فلسفية أو تنظيرية، إذ يعرض الواقع بلغة مفهومة للجمهور العريض، ويعتمد على مواقف يومية وأحداث واقعية محوّرة، ليظهر التناقض الحاد بين أبناء البيئة التقليدية وبين موجات التغيير الرقمي التي اجتاحت كل شيء، وتعتبر الكوميديا هنا ليست عبثية، لأنها مشبعة برسائل واضحة حول تغيّر العالم من حولنا دون أن ننتبه، وكيف أصبح البقاء مرهونًا بامتلاك الأدوات الرقمية.
وتبرز متتاليات المشاهد التحول المفاجئ في القيم المجتمعية من خلال رحلة بطل الفيلم محمد الذي لعب دوره الممثل تامر حسني، كونه يرى فكرته الطموحة تُهمل فقط لأنه ليس مؤثِّرًا، بينما يحصل آخرون على الجوائز لمجرد أنهم يمتلكون متابعين. وهذا التفاوت يؤكد أن معايير التقدير اختلفت في عالم السوشيال ميديا، ولم تعد تعتمد على الفكر أو الجهد، بينما الحقيقة توضح التفاعل والضجيج.
هنا تظهر المفارقة، فأبناء “الأصول” وأصحاب القيم الحقيقية أصبحوا غير مؤهلين للنجاة في عالم لا يعترف إلا بالصورة والضجة.
وينقل الفيلم رسالة ضمنية مفادها أن الحياة دون إنترنت وسوشيال ميديا أصبحت مستحيلة، وأن من لا يواكب هذا التيار يجد نفسه في عزلة حقيقية، إذ يبين تكوين اللقطات في إبراز هذا الاضطراب من خلال مشاهد تجمع بين الطرافة والمرارة، حيث يُجبر الأبطال على فعل كل ما هو غير منطقي لجذب الانتباه، ولو كان ذلك على حساب كرامتهم، لكنها ليست فقط قصة عن الضحك أو التهكم، وإنما الانهيار البطيء لشخصيات تُصارع كي تثبت ذاتها وسط فوضى خوارزميات لا ترحم.
ويبرز الصراع مع الجوكر حالة التناقض الوجودي التي يعيشها الجيل القديم داخل هذا العالم الرقمي، فبينما يحاول محمد الدفاع عن مبادئه، يعود في النهاية ليخضع لشروط هذا الواقع الجديد، في تذبذب يبيت الضياع الذي يشعر به كل من لم يُولد في عصر الشاشات.
ويعجز السيناريو أحيانا عن تقديم مبررات منطقية لتحولات الشخصيات، لكنه يُعوّض ذلك بجرعة إنسانية تجعل المُشاهد متعاطفا مع أبطاله، لأنهم حقيقيون ومكسورون أمام ضغط العصر.
ويُعري الفيلم من خلال أسلوبه البسيط واقعا مركّبا، ويطرح سؤالا وجوديا ساخرا: هل نعيش في زمن تتحكم فيه الآلة بنا، أم نحن من سمح لها بذلك؟ وربما يُفهم خطاب الفيلم في بعض مشاهده على أنه تحذير أخلاقي من فقدان الذات، لكنه في جوهره تأمل ساخر في معضلة مفادها كيف يعيش الإنسان القيمي في عالم بلا ذاكرة، يتغير فيه التريند كل ساعة، بينما يبحث هو عن معنى ثابت وسط هذا التيه.
يبقى فيلم “ريستارت” عملا يحاول أن يعالج قضية عصرية مهمة تتعلق بسيطرة السوشيال ميديا على حياتنا، لكن للأسف، يفشل في استثمار هذه الفكرة بطريقة متماسكة، إذ يظهر العمل وكأنه خليط غير متجانس من مشاهد متفرقة، يبدأ برغبة في طرح موضوع جاد، ثم يتحوّل إلى قصة حب، ثم ينزلق إلى الوعظ الاجتماعي، حتى نصل إلى لحظات يبدو فيها وكأننا نتابع إعلانا طويلا بلا روح، فنشعر بغياب التصاعد الدرامي، وبانفصال واضح بين المشاهد وكأن كل مشهد صُوّر بمعزل عن السياق العام، وهذا يخلق فوضى سردية تفقد الفيلم عمقه وواقعيته رغم بساطته.
يستمر الإخراج رهين النمطية والتكرار، حيث أعادت المخرجة سارة وفيق تقديم تامر حسني في القالب المعتاد عليه، أي البطل الطيب الذي يمر بتطور نفسي وشخصي. وما نراه في “ريستارت” هو تكرار ممل لصورة محفوظة ومعلّبة، يفتقر إلى أي تجديد بصري أو إخراجي، بينما حبكة السيناريو عامة ضعيفة ومهلهلة، مليئة بالحشو وضيوف الشرف غير المؤثرين، وكأن الهدف من وجودهم هو التسويق فقط لا الإسهام في البناء الدرامي، بينما الشخصيات تتحدث بجمل مألوفة ومبتذلة، وتتصرف بلا مبرر أو منطق فني.
ونؤكد أن العمل رغم كل عيوبه، يلمح إلى فكرة مهمة حول تأثير الإنترنت والسوشيال ميديا على الوعي الجمعي والهوية والعلاقات، لكنه لا يملك الأدوات الكافية لمعالجة هذه الفكرة بقوة، كما أن الأداء التمثيلي للفنانين يعاني أيضا من المبالغة، كما في حالة هنا الزاهد، أو الوجود غير المبرر كما هو الحال مع محمد ثروت، أما تامر حسني، فبدلا من العودة بعمل فني ناضج بعد غيابه عن السينما، اختار تقديم خلطة سريعة من عناصر متفرقة لا تنسجم معا، رغم ذلك يخرج المشاهد من الفيلم بانطباع أنه شاهد عملا خفيفا يمكن نسيانه بسرعة، باستثناء بعض الأغاني الجيدة.
ويُعيد أداء الفنان تامر حسني الباهت دوره أيضا في فيلم “تاج” عندما تناول شخصية شاب يمتلك قدرات خاصة ويحاول استخدامها لخدمة الخير، وينطلق من نية نبيلة لتقديم سوبر هيرو عربي، لكنه سرعان ما يغرق في قوالب جاهزة ومواقف مكررة تجعل الفكرة تفقد خصوصيتها المحلية لصالح استنساخ باهت لنماذج أجنبية، فتامر حسني الذي يؤدي دور توأمين أحدهما خارق، يعتمد على حضوره المحبوب أكثر من اعتماده على تطوير الشخصية أو خلق أداء مركب، وعلى عكس ما توقعه الجمهور من جرأة فنية بعد فيلمه السابق “مش أنا”، نجد في “تاج” استسهالا واضحا في الكتابة والتمثيل، بل وركونا إلى الصيغ الكوميدية والتربوية التقليدية، جعله يفشل في بناء عالم خاص به كبطل خارق.
ويفتقر “تاج” أيضا إلى العمق الإخراجي والتطور السردي، وهي نفس العلة التي تصيب فيلم “ريستارت” لكن الفرق أن “تاج” يُقدَّم كحكاية خيالية بينما “ريستارت” يحاول نقد الواقع الافتراضي والتحولات الاجتماعية بجدية سطحية، ففي “تاج”، تميل المعالجة إلى الكوميديا الفوقية والمواقف المباشرة التي لا تترك مساحة لتصعيد درامي أو بناء داخلي للشخصيات. أما “ريستارت”، رغم تعثره، فقد احتوى على نواة فكرة قوية مرتبطة بالهوية الرقمية وهيمنة السوشيال ميديا، بينما “تاج” لم يمتلك من الفكرة سوى قشرة ترفيهية لم تُستثمر جيدًا. كلا الفيلمين يتشابهان في استسهال استخدام ضيوف الشرف أو لحظات التأمل الوهمية، لكن “ريستارت” سقط في فخ التشتت بين أنواع كثيرة، بينما “تاج” بقي متماسكا على مستوى النوع، لكنه فارغ على مستوى المضمون.
وتُحبط النهاية في “تاج” كما في “ريستارت” أي توقع لصعود فني حقيقي، ففي الفيلمين، يظهر البطل طيب القلب، مثاليا أكثر من اللازم، ويصل إلى نهايته بدون رحلة داخلية حقيقية. بينما يقدم “ريستارت” على الأقل أغاني جيدة ومشاهد رومانسية فيها كيمياء، لكن يُقحم “تاج” الجانب العاطفي بطريقة باهتة وخالية من الإثارة أو المفاجأة.
ويمكن القول إن كلا الفيلمين يعكسان أزمة أكبر في السينما التجارية: تغليب الشكل على الجوهر، وترك مساحة الإبداع لحساب النجم لا القصة، وفي حين أن “ريستارت” قد يقال إنه أضاع فرصة ثمينة لمواكبة موضوع عصري بطريقة ذكية، فإن “تاج” لم يمنح لنفسه هذه الفرصة من الأصل، بل اكتفى بمزج الخيال بالوعظ في خلطة لا تُقنع جمهورا يتوق لرؤية سينما خارقة بحق، لا سينما تفتقر للقوة، حتى لو حملت عباءة الأبطال الخارقين.