احتجاجات بنغلادش.. كيف وظف الإخوان «الفوضى» لتصدر المشهد؟
في الفراغات التي خلفتها مرحلة انتقالية مرتبكة في بنغلاديش، برز الدور السلبي لجماعة الإخوان وشبكات الإسلام السياسي المنضوية في فلكها، بوصفها لاعبًا يسعى إلى توظيف الاحتجاجات، وإعادة توجيه الغضب الشعبي نحو مشروع أيديولوجي منظم.
فخلف شعارات الديمقراطية والعدالة، عملت هذه الجماعات على استثمار مقتل شريف عثمان هادي، أحد أبرز قادة الانتفاضة الطلابية التي أطاحت برئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة، كرافعة تعبئة، مستغلة هشاشة الدولة وتراجع الثقة بالمؤسسات لفرض حضورها في الشارع، وخلط المطالب الاجتماعية بأجندات سياسية عابرة للحدود.
هذا الدور لا يندرج في سياق لحظة عفوية، بل يعكس نمطًا متكررًا في سلوك الإخوان خلال المراحل الانتقالية: التغلغل في لحظات الاضطراب، وتقديم أنفسهم كبديل أخلاقي، ثم الانقضاض على المجال السياسي حين تضعف السلطة المركزية.
وفي حالة بنغلادش، يتخذ هذا السلوك طابعًا أكثر خطورة، إذ يتقاطع مع جماعات محظورة وتاريخ طويل من العنف السياسي، ما يحوّل الاحتجاج من أداة ضغط مدني إلى وسيلة لزعزعة الاستقرار وابتزاز المستقبل الديمقراطي للبلاد.
فماذا فعلت جماعة الإخوان؟
تقول مجلة «فورميتشي» الإيطالية، إن العنف الذي انفجر في دكا ومدن كبرى أخرى، مترافقًا مع شعارات معادية للهند وهجمات على وسائل إعلام عُرفت تقليديًا بحيادها، يندرج ضمن دينامية أعمق: محاولة الإسلام السياسي المنظم الاستيلاء على الفضاء السياسي في مرحلة انتقال مؤسسي شديدة الحساسية.
وأوضحت أنه بينما أطلقت الحكومة المؤقتة برئاسة محمد يونس دعوات للتهدئة ونشرت قوات الأمن، ووصفت الوضع بأنه «لحظة حرجة» للديمقراطية البنغلاديشية، يبدو المشهد على الأرض أكثر تعقيدًا.
فبحسب مصادر إقليمية، جرى احتواء الاحتجاجات سريعًا من قبل جماعات «إرهابية»، فيما تراقب الهند بقلق متزايد التهديدات الموجهة إلى دبلوماسييها ومراكزها الثقافية.
وأشارت الصحيفة الإيطالية إلى أن رد فعل جماعة الإخوان المسلمين يمنح قراءة أوسع للمشهد؛ إذ كانت الجماعة قد رحبت في أغسطس/آب 2024 بسقوط الشيخة حسينة واعتبرته «ثورة شعبية»، داعية بنغلادش إلى استكمال أهدافها عبر تشكيل حكومة مدنية «بعيدة عن التدخلات العسكرية».
الخطاب يعكس أنماطًا مألوفة: إضفاء الشرعية الأخلاقية، الاستحواذ على مفهوم الديمقراطية، والرفض الانتقائي للمؤسسات عندما لا تخدم المشروع الإسلامي السياسي، بحسب الصحيفة الإيطالية.
ويقول مايكل روبن من معهد أمريكان إنتربرايز، إنه لا يمكن قراءة الاحتجاجات بوصفها ظاهرة عفوية؛ فالعقدة الأساسية تكمن في دور الجماعة الإسلامية (جماعت-e-إسلامي)، الحركة الإسلامية ذات الجذور الأيديولوجية العميقة في فكر الإخوان المسلمين، والتي تمتلك تاريخًا طويلًا من العنف السياسي.
ويشير روبن إلى أن الجماعة -رغم حظرها- تقدم نفسها كاستجابة لما تسميه «الظلم الاجتماعي»، لكنها في الواقع باتت نموذجًا للإرهاب الأيديولوجي المنظم والمتماسك والعابر للحدود، وهي بيئة سبق أن أنجبت أو ألهمت جماعات إرهابية نشطة في عموم شبه القارة الهندية.
«الماضي يثقل الحاضر، فقد تورطت الجماعة الإسلامية بشكل مباشر في جرائم عام 1971 خلال حرب الاستقلال، إلى حد مثولها أمام محكمة دولية بتهم الإبادة الجماعية»، بحسب الصحيفة الإيطالية.
تغلغل إخواني
ومع ذلك، وعلى الرغم من الحظر والأحكام الصادرة بحقها في عهد حكومات رابطة عوامي، لم تُفكك بنيتها الاجتماعية بالكامل.
وكان سيرجيو ريستيلي قد أشار قبل أشهر إلى أن «جماعات الإسلام السياسي ذات الجذور الإخوانية، ما زالت تتغلغل في قطاعات واسعة من المجتمع البنغلاديشي عبر شبكات تعليمية وخيرية وغير رسمية، خصوصًا في المناطق الريفية وشبه الحضرية».
ويفسر هذا التجذر كيف أن مرحلة ما بعد حسينة فتحت فراغات سياسية سارع إلى ملئها اللاعبون الأكثر تنظيمًا.
وأوضحت الصحيفة الإيطالية، أن عودة الشبكات الإرهابية إلى الواجهة بعد سقوط حسينة تعزز فرضية وجود تنسيق إقليمي يستهدف تخريب المسار الانتخابي وتطبيع حضور الإخوان والإسلام السياسي في المجال العام.
غير أن هذه الدينامية المحلية تندرج ضمن إطار أوسع بكثير. فقد وصف تقرير حديث صادر عن معهد دراسة معاداة السامية العالمية والسياسات جماعة الإخوان المسلمين بأنها مشروع أيديولوجي طويل الأمد، يقوم على استراتيجية «التمكين»: اختراق تدريجي ومنهجي للمؤسسات والجامعات ووسائل الإعلام والمجتمع المدني. ليست ثورة مسلحة فورية، بل سيطرة متدرجة على الفضاءين الثقافي والسياسي، قابلة للتكيّف مع السياقات الوطنية المختلفة. وباتت بنغلادش تبدو على نحو متزايد أحد ميادين تطبيق هذا النموذج.
تحول في المواقف
وفي هذا السياق، يندرج أيضًا التحول في الموقف الأمريكي؛ ففي 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وقّع دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يمهّد لتصنيف عدة أفرع من جماعة الإخوان المسلمين — في لبنان ومصر والأردن — كمنظمات إرهابية.
ويشمل الإجراء، الذي يُرجح أن يشهد تطورات إضافية قريبًا، وزارات الخارجية والخزانة والعدل وأجهزة الاستخبارات، ويهدف إلى تجريم دعم الشبكة الإخوانية عبر فرض عقوبات اقتصادية وقيود على التأشيرات.
ووفقًا للبيت الأبيض، تغذي الجماعة حملات زعزعة الاستقرار ضد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، مع روابط عملياتية مباشرة بحركتي حماس وحزب الله.
في ضوء ذلك، لم تعد بنغلادش أزمة هامشية، بل تحولت إلى حالة دراسية لكيفية سعي الإسلام السياسي إلى استثمار المراحل الانتقالية، مموهًا مشروعًا أيديولوجيًا راديكاليًا خلف خطاب الديمقراطية والعدالة.
وبالنسبة لواشنطن ونيودلهي والشركاء الإقليميين، لا يقتصر الرهان على استقرار دكا فحسب، بل على القدرة على التعرف إلى — واحتواء — تهديد عابر للحدود يزدهر تحديدًا في فراغات السلطة والالتباسات الغربية.