كيف ساعد «السوفيات» أمريكا عن غير قصد في بناء أول طائرة شبحية؟

وكالة أنباء حضرموت

في ذروة الحرب الباردة، وقعت واحدة من أكثر مفارقات التاريخ العسكري إثارة: اختراق أمريكي نوعي وُلد من قلب مدرسة علمية سوفياتية.

فبينما كان الاتحاد السوفياتي يطوّر راداراته وصواريخه لاصطياد الطائرات الأمريكية، تسللت معادلات فيزيائية كتبها عالم سوفياتي إلى الجانب الآخر من الستار الحديدي، لتتحول إلى حجر الأساس لأول طائرة شبحية عملياتية في العالم.

هكذا وُلدت F-117 «نايت هوك» من رحم برنامج «هاف بلو»، كنتاج غير مباشر لعلم سوفياتي، ليعيد تعريف مفهوم القوة الجوية: طائرة لا تنتصر بالسرعة ولا بالمناورة، بل بالاختفاء… وتفتح بذلك فصلًا جديدًا في تاريخ الحروب الحديثة.

فما القصة؟
اعتمد التصميم الثوري لبرنامج «هاف بلو» (Have Blue)، الذي تطوّر لاحقًا ليصبح طائرة F-117 نايت هوك، بشكل كبير على أبحاث أجراها الفيزيائي السوفياتي بيوتر أوفيمتسيف.

كانت F-117 نايت هوك أول طائرة شبحية عملياتية في العالم، ما شكّل نقطة تحوّل جذرية في تاريخ الطيران العسكري، إذ باتت الطائرة قادرة على تحقيق البقاء عبر الاختفاء بدلًا من السرعة أو القدرة على المناورة.

وُلدت الطائرة من رحم برنامج «هاف بلو» فائق السرية التابع لشركة لوكهيد العملاقة في مجال الدفاع، وبقيت سرية حتى عام 1988، أي بعد خمس سنوات من دخولها الخدمة الفعلية عام 1983.

الجذور في الحرب الباردة
خلال سبعينيات القرن الماضي، كانت تقنيات الرادار والصواريخ السوفيتية تتطور بسرعة متزايدة وتزداد فتكًا. وفي سعيها لإيجاد وسيلة لضرب أهداف عالية القيمة في عمق الأراضي السوفيتية، بدأت القوات الجوية الأمريكية الاستثمار في تكنولوجيا الشبح. وأطلقت وكالة داربا (DARPA) برنامجًا لاستكشاف أشكال متطرفة قادرة على الإفلات من الرادار، قبل أن تفوز وحدة «سكَنك ووركس» التابعة لشركة لوكهيد بعقد تطوير ما سيصبح لاحقًا طائرة F-117.

العامل الحاسم في البرنامج كان اختراقًا رياضيًا—والمفارقة أنه جاء من الفيزيائي السوفياتي بيوتر أوفيمتسيف، الذي درس كيفية تشتت الموجات الكهرومغناطيسية عند اصطدامها بالأسطح.

وأثناء دراسة خصائص موجات الرادار، اكتشف مهندسو لوكهيد معادلات أوفيمتسيف، والتي—في سهو مذهل—لم يصنّفها الاتحاد السوفياتي على أنها سرية، على الأرجح لأن أهميتها الاستراتيجية لم تكن واضحة آنذاك.

استغل المهندسون الأمريكيون هذه المعادلات لتصميم طائرة ذات زوايا حادة تعكس موجات الرادار بعيدًا عن أجهزة الاستقبال.

وكان «هاف بلو» من أوائل البرامج التي استخدمت الحواسيب لحساب الشكل المثالي للطائرة، إلا أن محدودية قدرات المعالجة -آنذاك- حالت دون تصميم أسطح منحنية مثالية، فنتج عن ذلك تصميم مميز يعتمد على ألواح مسطحة متجاورة، منح الطائرة مظهرًا حادًا وغير مألوف.

طوّر برنامج «هاف بلو» نموذجين أوليين، فُقدا لاحقًا في حادثين منفصلين، لكنهما أثبتا عمليًا أن مفهوم التخفي يمكن أن ينجح. وظل البرنامج طوال مراحله فائق السرية، حتى داخل وزارة الدفاع الأمريكية نفسها، نظرًا لتداعياته الاستراتيجية على مسار الحرب الباردة.

المواصفات الفنية لطائرة F-117 نايت هوك
سنة الدخول إلى الخدمة: 1983
عدد الطائرات المصنّعة: 64 (59 طائرة عملياتية من طراز F-117A + 5 نماذج أولية)
الطول: 65 قدمًا و11 بوصة (20.1 متر)
باع الجناحين: 43 قدمًا و4 بوصات (13.2 متر)
الوزن الأقصى عند الإقلاع: نحو 52,500 رطل (23,800 كغ)
المحركات: محركان توربينيان من طراز GE F404-F1D2 (قوة دفع 10,600 رطل لكل محرك، دون حارق لاحق)
السرعة القصوى: نحو 620 ميل/ساعة (1,000 كم/س) ≈ ماخ 0.92
المدى: نحو 930 ميلًا (1,500 كم) نصف قطر قتالي؛ وأكثر من 1,600 ميل (2,575 كم) مع التزوّد بالوقود جوًا
سقف الارتفاع: نحو 45,000 قدم (13,700 متر)
التسليح: حجرتان داخليتان؛ عادة قنبلتان موجهتان بالليزر زنة 2,000 رطل أو قنابل JDAM
الطاقم: طيار واحد
كيف غيّرت F-117 قواعد الحرب الجوية؟
كانت F-117 نسخة مطوّرة من نموذج «هاف بلو»، جرى تحويلها إلى طائرة هجومية عملياتية. أُجريت أول رحلة لها عام 1981، بينما بلغت الجاهزية التشغيلية الأولية عام 1983. وأُدير البرنامج بالكامل من قاعدة تونوباه للاختبارات في ولاية نيفادا—حيث لا تزال الطائرة تُحلّق حتى اليوم رغم إخراجها من الخدمة منذ سنوات—وسط مستويات قصوى من السرية. وكان الطيارون يستخدمون قصصًا غطائية ولا يطيرون بالطائرة إلا ليلًا.

من حيث المواصفات التقنية البحتة، بدت الطائرة متواضعة نسبيًا؛ سرعتها دون سرعة الصوت، ومدى طيرانها وحمولتها محدودان. غير أن قيمتها الحقيقية لم تكن في الأرقام، بل في كونها منصة ثورية غير مسبوقة. فقبل F-117، لم تُعطِ أي طائرة أولوية لتقليل البصمة الرادارية على حساب جميع مؤشرات الأداء الأخرى.

جاء تصميم الطائرة مُحسّنًا للتخفي لا للانسيابية الهوائية، ما منحها شكلًا زاويًا غريبًا لا يزال مميزًا بين الطائرات العسكرية حتى اليوم.

وكانت F-117 صعبة القيادة للغاية؛ إذ جعل شكلها المتعدد الزوايا الطائرة غير مستقرة هوائيًا، ما استدعى نظام تحكم رقمي رباعي الاحتياطيات (fly-by-wire) فقط للحفاظ على السيطرة. وشبّه الطيارون قيادتها بقيادة «ثلاجة طائرة».

لم تكن الطائرة مزودة بحارق لاحق، ولم تكن قادرة على الهروب من المقاتلات أو الصواريخ، واعتمدت كليًا على التخفي للبقاء. ولهذا السبب، عملت دون رادار، معتمدة بدلًا من ذلك على مستشعرات الأشعة تحت الحمراء وحواضن الاستهداف.

ومع ذلك، أحدثت F-117 ثورة في عقيدة القوة الجوية، وأثبتت أن التخفي ليس مجرد تجربة، بل عامل حسم استراتيجي.

وأدى إدخالها الخدمة إلى توجيه برامج التسليح الأمريكية نحو الطائرات الشبحية (B-2، F-22، F-35، B-21)، كما أجبر الخصوم على التطور؛ فبعد وقت قصير من ظهور «نايت هوك»، بدأت روسيا والصين ودول أخرى تطوير رادارات منخفضة التردد وأنظمة دفاع شبكية لمواجهة تكنولوجيا التخفي—والعمل على بناء قدراتها الشبحية الخاصة.