فهد حنش

ماذا بعد استكمال السيطرة الميدانية على الأرض؟ قراءة تحليلية في استحقاقات التأسيس ومسارات ما بعد التحرير

وكالة أنباء حضرموت

بعد أن نجحت القوات الجنوبية في استعادة معظم أراضي الجنوب، واقتربت من طي الصفحة الأخيرة في معركة التحرير باستكمال السيطرة على مديرية مكيراس، تدخل القضية الجنوبية في أهم وأدق مراحلها منذ انطلاق المشروع التحرري. فقد تحقق الإنجاز العسكري على الأرض غير أن معركة بناء الدولة وانتزاع الشرعية السياسية لم تبدأ بعد بصورة كاملة، وهو ما يجعل المرحلة الراهنة اختباراً حقيقياً لجدية المشروع الوطني الجنوبي وقدرته على التحول من حالة نضالية إلى كيان دولة مكتملة الأركان.

فالتحرير لا يُقاس فقط بحدود السيطرة العسكرية بل بمدى القدرة على إدارة الأرض والإنسان وبناء مؤسسات فاعلة قادرة على توفير الأمن والخدمات والعدالة. فالدولة ليست علماً يُرفع أو بياناً يُتلى، وإنما منظومة متكاملة من الحكم الرشيد، والاقتصاد المنتج، والإدارة الكفؤة، والقرار السيادي المستقل. ومن دون استكمال هذه المنظومة، سيظل مشروع الدولة هشاً وعرضة للاهتزاز أمام أول استحقاق داخلي أو خارجي.

وفي هذا السياق، تبرز مجموعة من المسارات الاستراتيجية والمتطلبات العاجلة التي ينبغي العمل عليها بوعي ومسؤولية للتهيئة لإعلان الدولة الجنوبية وترسيخ حضورها.

أولاً: المسار الدبلوماسي: يمثل المسار الدبلوماسي حجر الأساس في معادلة الشرعية الدولية، وتقتضي المرحلة الراهنة تشكيل فريق دبلوماسي محترف يمتلك الكفاءة السياسية والقدرة على التواصل مع العواصم المؤثرة إقليمياً ودولياً، وتقديم رؤية واضحة ومسؤولة وطتمينات لدول العالم حول مستقبل الدولة الجنوبية ودورها كشريك أساسي في حفظ أمن واستقرار المنطقة ومحاربة الأرهاب وتأمين الملاحة الدولية. كما يتطلب الأمر شرح مبررات الاستقلال وفق قواعد القانون الدولي، وبما يكفل كسب الدعم وتحقيق تفهم دولي يهيئ البيئة السياسية لإعلان الدولة دون الدخول في صدامات أو عزلة. فالدبلوماسية هنا ليست ترفاً سياسياً بل شرطاً وجودياً لأي دولة ناشئة.

ثانياً: المسار الإعلامي: الإعلام في هذه المرحلة لا يقل أهمية عن أي مسار آخر إذ ينبغي الانتقال من خطاب ردّ الفعل إلى صناعة الوعي والتأثير في الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي. فالمطلوب في هذه المرحلة هو تبني استراتيجية إعلامية مؤسسية تعتمد على خطاب عقلاني واحترافي يوثق عدالة القضية الجنوبية ويعرضها بلغة عصرية هادئة، ويعزز حضورها في وسائل الإعلام الدولية المؤثرة. كما يتوجب بناء شبكات إعلامية قادرة على فضح كافة الممارسات والمغالطات التي ينتهجها الإعلام المعادي، ونقل الحقائق كما هي على الأرض بعيداً عن الانفعال والشعارات.

ثالثاً: مسار توحيد الجبهة الداخلية: تمثل الجبهة الداخلية صمام الأمان الأول للدولة الجنوبية القادمة. فأخطر ما قد يواجه الجنوب بعد التحرير ليس التحديات الخارجية، بل احتمالات الانقسام الداخلي. ومن هنا تبرز ضرورة بناء شراكة وطنية جنوبية واسعة، تقوم على مبدأ الوطن للجميع، واحتواء مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وإدارة الخلافات بالحوار والتفاهم لا بالمناكفات والصراعات، مع إغلاق كل منافذ الاختراق التي قد تُستغل لإرباك المشهد.

رابعاً: المسار الجماهيري: لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح دون التفاف شعبي واسع. ويتمثل هذا المسار في تعزيز ثقة الجماهير بالقيادة السياسية، وتكريس الالتفاف حول الأهداف التي أعلنها المجلس الانتقالي الجنوبي وفي مقدمتها استعادة الدولة وخارطة طريق تحقيقها، فالشرعية الشعبية تشكل ركيزة أساسية لأي إعلان سياسي، وتمنح المشروع الوطني قوته الحقيقية واستدامته.

خامساً: مسار بناء المؤسسات ومحاربة الفساد: يتطلب الانتقال من مرحلة التحرير إلى مرحلة الدولة فرض السيطرة الكاملة على المؤسسات العامة وإدارتها بكفاءة ومسؤولية، مع إطلاق معركة حقيقية ضد الفساد المستشري في مختلف المرافق. فبناء نماذج ناجحة للإدارة الرشيدة والشفافية سيعزز ثقة المواطن، ويمنح الدولة الناشئة مصداقية داخلية وخارجية.

سادساً: المسار الاقتصادي: يمثل الاقتصاد التحدي الأكبر لأي دولة ناشئة. وتفرض المرحلة تبني سياسة اقتصادية واقعية وتقشفية، تقوم على ضبط الموارد وتحصيلها بشفافية، وإيداعها في الخزينة العامة الجنوبية، مع تحديد أولويات الإنفاق بما يضمن تحسين الخدمات الأساسية، وصرف الأجور والمرتبات بانتظام، والمساهمة في استقرار العملة وتحريك عجلة الاقتصاد.

سابعاً: مسار البنية التحتية والاستقلال السيادي: لا يكتمل بناء الدولة دون تأسيس بنية تحتية مستقلة، منفصلة عن منظومة الشمال في مختلف القطاعات، وفي مقدمتها قطاع الاتصالات والخدمات السيادية. ويهدف هذا المسار إلى تحقيق استقلالية القرار، والتحرر من أدوات الضغط والتبعية التي عانى منها الجنوب في مراحل سابقة، بما يضمن سيادة كاملة على الأرض والموارد.

إن ما بعد السيطرة الميدانية لا يقل أهمية عن معركة التحرير ذاتها. فالانتصار العسكري يفتح الباب لكنه لا يبني الدولة، وبقدر ما تنجح القيادة الجنوبية في إدارة هذه المسارات بحكمة وتوازن بقدر ما يصبح إعلان الدولة الجنوبية خطوة طبيعية تتويجاً لنضال طويل لا مغامرة سياسية محفوفة بالمخاطر.

مقالات الكاتب