عويس القلنسي

نحو دولة مدنية… الدين فيها للعبادة لا للصراع

وكالة أنباء حضرموت

لا نريد إسلامًا سياسيًا، لا شيعيًا ولا سنيًا، لأن تسييس الدين كان ولا يزال أحد أكبر أسباب الانقسام والصراع في مجتمعاتنا. الدين في جوهره رسالة إيمان وأخلاق وعبادة، لا أداة حكم ولا وسيلة للهيمنة أو الإقصاء.

لقد أثبت الواقع، والتجارب المعاصرة في المنطقة، أن خلط الدين بالسلطة السياسية يؤدي إلى الاستبداد باسم المقدس، ويغلق باب المحاسبة، ويحوّل الخلاف السياسي إلى صراع عقدي لا يقبل التعدد ولا التسوية. وحين تُقدَّس السياسة، يُجرَّم الاختلاف، وتُصادَر حرية التفكير، وتُختَزل الوطنية في الانتماء المذهبي.

الدولة التي نحتاجها اليوم هي دولة مدنية علمانية ليبرالية، لا تعادي الدين ولا تحاربه، بل تفصل بينه وبين مؤسسات الحكم، وتضمن حرية المعتقد والعبادة للجميع دون تمييز. دولة يكون معيار المواطنة فيها هو الحقوق والواجبات، لا الطائفة ولا المذهب ولا الخلفية الدينية.

الشعوب اليوم لا تطالب بخطاب أيديولوجي ولا بفتاوى سياسية، بل تطالب بخدمات أساسية، تعليم جيد، صحة، فرص عمل، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية، ورفاهية معيشية. هذه هي وظائف الدولة الحديثة، وهي لا تتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي يحكمه القانون، وتُدار فيه المؤسسات بكفاءة لا بشعارات دينية.

أما الدين، فمكانه الطبيعي هو دور العبادة وضمير الإنسان: في فعل الخير، في تهذيب الأخلاق، في نشر المحبة، والتسامح، والتآخي، والسلام، وفي تقديم النصيحة الصادقة بعيدًا عن الإكراه والوصاية. فالدين يزدهر حين يكون حرًا، ويضعف حين يُستَخدم كأداة سلطة.

إن الفصل بين الدين والدولة ليس إقصاءً للدين، بل حماية له، وحماية للمجتمع من التوظيف السياسي للمقدس. وهو الطريق الأقرب لبناء أوطان تتسع للجميع، وتحترم الإنسان كإنسان، قبل أي انتماء آخر.

الدين رسالة… والسياسة اختصاص

لذلك، بات من الضروري أن تقوم جماعة الإخوان المسلمين، وغيرها من الجماعات التي تُسيِّس الدين، سواء كانت سنية أو شيعية، بمراجعات فكرية جادة وشجاعة، تعترف فيها بأخطاء الخلط بين الدعوي والسياسي، وبين المقدس والمصلحي. لقد أثبتت التجربة أن هذا الخلط لم يخدم الدين، ولم يبنِ دولة، بل أنتج انقسامًا مجتمعيًا وصراعات دامية وتعطيلًا لمسار التنمية والديمقراطية.

إن المطلوب اليوم ليس الإقصاء ولا الانتقام، بل إعادة التموضع: إما إعلان حلّ هذه التنظيمات السياسية ذات الطابع الديني، أو انتقالها الصريح والواضح إلى العمل الديني والخيري والإرشادي البحت، بعيدًا عن التنافس على السلطة، وبعيدًا عن استخدام الخطاب الديني في الصراع السياسي.

فالسياسة علم وفن وإدارة مصالح عامة، تحتاج إلى خبرة وبرامج ورؤى اقتصادية وإدارية، وتُدار بالمحاسبة والشفافية والتداول السلمي للسلطة، لا بالفتاوى ولا بالاصطفافات العقدية. وكما يُقال: اترك الخبز لخبازه، فالدين لأهله في العبادة والتزكية، والسياسة لأهلها من المتخصصين ورجال الدولة.

إن حصر دور المؤسسات الدينية في نشر القيم الأخلاقية، وفعل الخير، وتعزيز السلام والتسامح، يُعيد للدين مكانته الروحية الجامعة، ويُخرج المجتمع من دوامة الاستقطاب المذهبي. كما أنه يفتح المجال أمام قيام أحزاب مدنية حديثة، ببرامج واضحة، تُحاسَب على أدائها لا على قدسيتها.

إن الدول لا تُبنى بالشعارات الدينية، بل بالمواطنة المتساوية، والمؤسسات القوية، والاقتصاد المنتج، والحكم الرشيد. وأي مشروع سياسي يريد النجاح في العصر الحديث، عليه أن يكون مدنيًا، ديمقراطيًا، إنسانيًا، يخاطب عقول الناس ومصالحهم، لا غرائزهم