مروان السياري

تهامة بين التهميش والإرث المقاوم.. سيرة رجال وصورة منطقة

وكالة أنباء حضرموت

في خضم ما يشهده اليمن من تحولات جيوسياسية وأمنية، تتجدد الأسئلة حول طبيعة النماذج المقاومة التي صمدت أمام موجات الغزو والتدخل الخارجي، وبرزت بدورها الفاعل في حماية الأرض والهوية. وتقدم تهامة، الواقعة على الشريط الساحلي الغربي لليمن، نموذجًا فريدًا في هذا السياق، لما تمثله من حاضنة تاريخية لرجالٍ اتسموا بالثبات والصلابة، واتخذوا من الجهاد والمقاومة نهجًا أصيلًا لا خاضعًا لحسابات التفاوض والمساومة.

تتصف النماذج التهامية المقاومة، عبر مراحل تاريخية مختلفة، بسمات لافتة أبرزها التواضع، والكرامة، والقدرة على المواجهة دون خوف أو خذلان. لا يُصنَّفون ضمن "نوعية مختلفة" من البشر، وإنما يُجسّدون صورة الإنسان السوي الذي لم تنل منه مظاهر الانهيار القيمي التي عصفت بالمجتمعات الأخرى. وهم، بحسب معايشات محلية وشهادات تاريخية، يمثلون عقيدة قتالية جهادية مستقرة، ويملكون إرثًا طويلًا في التعامل مع الغزاة، سواء من الخارج أو من الداخل، مستندين إلى خبرات ميدانية عبر قرون.

وقد سجلت الذاكرة التهامية وقوف هؤلاء في وجه قوى خارجية كالأحباش، والبرتغاليين، والعثمانيين، الذين حاولوا السيطرة على الموانئ الحيوية والسواحل التهامية، ولم يكن الرد عليهم مجرد مقاومة ظرفية، بل مشروع دفاعي طويل المدى، تبلور في شكل حركات محلية ومقاومات مسلحة حافظت على السيادة الاجتماعية والسياسية.

تشير المعطيات التاريخية إلى أن تهامة لم تكن هامشًا في تاريخ اليمن، بل شكلت مركزًا فاعلًا في صناعة الأحداث. فقد كانت دولة قائمة بذاتها في مراحل سابقة، لها دستور وبرلمان واتفاقيات دولية، وشكلت ملجأً للفارين من القمع والجوع، ومقصدًا لطلاب العلم من شتى الأقاليم اليمنية، شمالًا وجنوبًا. ويؤكد باحثون أن النفوذ التهامي وصل إلى حدود إزعاج القوى الاستعمارية الكبرى في القرن التاسع عشر، مثل الإنجليز، والإيطاليين، والفرنسيين، فضلًا عن مقاومة التوسع العثماني.

وفي ضوء هذه المكانة، يمكن فهم أسباب ما تعرضت له تهامة لاحقًا من تهميش ممنهج وإقصاء سياسي وتنموي، إذ لم تكن المسألة مجرد إهمال عابر، وإنما جزء من محاولة لتقويض منطقة طالما شكلت تهديدًا فعليًا لخطط التوسع والهيمنة.

برز من تهامة عبر التاريخ الحديث عدد من الرموز الذين تركوا أثرًا بارزًا في السجل المقاوم، منهم الشيخ أحمد فتيني جنيد، وابن رضوان، ويُنسب إليهم الحفاظ على خطوط المقاومة الشعبية في لحظات الانكسار. كما تحتفظ المنطقة برمزية النسب والتاريخ، بكونها موطنًا لأحفاد الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ما يعزز من حضورها الرمزي في الوعي الجمعي.

ويواصل أبناء تهامة حمل هذا الإرث، كما يظهر في شخصيات معاصرة مثل اللواء خالد خليل، الذي يُنظر إليه بوصفه امتدادًا لسلسلة من القادة الميدانيين الذين يجمعون بين التجربة العسكرية والتاريخ المقاوم. كما تُستعاد سيرة شيخ المجاهدين عبد الرحمن حجري رحمه الله، باعتبارها من أبرز النماذج التي جمعت بين البساطة الشعبية والانخراط الفعلي في ميادين المواجهة.

في ظل التحديات الراهنة، يثور تساؤل جوهري: هل لا تزال تهامة قادرة على إنتاج نماذجها الخاصة في المقاومة والممانعة؟ يبدو أن الإجابة تكمن في استمرارية الروح المجتمعية الرافضة للتبعية، وفي الذاكرة الجمعية التي تحتفظ بمرجعياتها وتعيد استدعاءها حين تدعو الحاجة.

وفي الوقت الذي يُنظر فيه إلى تهامة بوصفها "الواحة المنسية"، فإن معطيات الواقع تؤكد أن هذا التوصيف لا يعكس حجم الدور الذي ما زالت تلعبه في المعادلة الوطنية اليمنية، سواء عبر رموزها المحلية أو من خلال موقعها الاستراتيجي الذي يبقيها في قلب الصراع.

الحديث عن تهامة ورجالها ليس مجاملة تاريخية ولا حنينًا عاطفيًا، بل هو ضرورة بحثية لتفكيك عناصر الصمود والمقاومة في السياقات اليمنية، وإعادة الاعتبار للمناطق التي قاومت بصمت وتاريخها لا يزال ينتظر من يكتبه برصانة وموضوعية. فتهامة، بكل ما فيها من رمزية وشخصيات وأحداث، لا تزال تقدم درسًا مستمرًا في معنى أن تكون الأرض هي الذاكرة والمصير.

مقالات الكاتب